| مقـالات
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي فتحت الأرشيفات التي تضم ملايين الوثائق حتى إنني قرأت العشرات منها محفوظة ومصورة وتشتمل على الكثير من المعلومات التاريخية، والسياسية والثقافية ما لفت نظري تلك التي تدور حول أمور الحج, والقرارات الحكومية الرسمية الصادرة لتنظيم الرحلات وما يتعلق في توفير الأمن والراحة للحجاج المسلمين من دول روسيا.
لقد كان العديد من الباحثين والدارسين لشؤون منطقة الجزيرة العربية والخليج في السابق يعتمدون على الوثائق الإنجليزية، وبذلك كان يؤخذ بجانب واحد لأي قضية يراد دراستها، الآن صار بالإمكان الإلمام بكل الجوانب واعتماد وجهات نظر متعددة، وقد تكون متباينة مما يغني أي دراسة، والوثائق الروسية تشتمل المراسلات الرسمية منذ أيام القيصر الروسي بطرس الأكبر والعلاقات الروسية العربية.
بالنسبة للحجاج الروس كانت هناك سفن مخصصة لنقلهم إلى شواطئ البحر الأحمر ومن ثم إلى مكة المكرمة والمدينة لأداء فريضة الحج التي كانت حلماً في قلب كل مسلم، وكانت تلك السفن العملاقة تتبع شركتين أساسيتين أحداهما أسطول المتطوعين للبواخر التي تأسست عام 1878م، وتصل إلى ميناءي جدة وينبع ثم الشركة الثانية واسمها جمعية البواخر الروسية التجارية وكانت شركة ضخمة تضم ما يقرب من (25) باخرة ولها وكالات عبر العالم، وعقارات في العديد من المدن، وقد نظمت رحلات الحجاج إلى موانئ البحر الأبيض والخليج العربي، والبحر الأحمر, كانت تلك البواخر تفسح مكانين للصلاة أحدهما مخصص للنساء, وفي كل باخرة طباخ مسلم يقدم اللحم الحلال هكذا تقول الوثائق حسب مواصفات رسمية، يجب أن تلتزم بها كل باخرة، ومن أقدم الأرشيفات التي تضم الوثائق المتعلقة بالحج تأسست عام 1724م، وفيها ما يقرب من (1,2) مليون وثيقة رسمية، أما أشهر الأرشيفات فتلك التي تقع في مدينة سان بطرسبرج في موسكو وتضم ما يقرب من ستة ملايين وثيقة رسمية مختومة بختم الامبراطور أو وزير الداخلية وقد تأسست عام (1922م).
لقد طالعت الكثير من الوثائق التي تحمل معلومات بعضها طريف، بل ومضحك لبساطته، بعضها يحمل معلومات وافية ونادرة، عن العلاقات العربية الروسية في تلك الحقبة البعيدة، لقد كانت الجزيرة العربية تشكل الحلم المتماوج مع كثبان الرمال الذهبية في وجدان القوى العظمى المتعددة في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي,, فقد كانت هناك أوروبا الناهضة من رماد القرون الوسطى ثم روسيا القارة الشاسعة التي تغطيها الثلوج دوماً، لا تطل على بحار تصلها بدول العالم، تختنق بوحدتها وبحدودها المطلة على البحر الأسود المتجمد طوال العام.
كان حلم الإمبراطور بطرس الأكبر الوصول إلى أحد موانئ البحار الدافئة ليطل على العالم وبالتالي يمتلك أسطولا بحرياً.
إلى جانب ذلك كان هاجس الشرق بسحره وغموضه وتراثه المتجدد يشكل لهفة مستمرة للاقتراب منه، ثم القوة المسلمة الدافعة من الداخل للتقارب مع الدول العربية والإسلامية.
الوثائق تقول إن الإسلام دخل روسيا مع قوات المغول الذين كانوا قد جاسوا بلدان الشرق، وتعرفوا على الإسلام عن قرب، فجذبهم بنوره وهذب طباعهم وحولهم من جحافل رعوية هائمة إلى نفوس وادعة، أصبحت فيما بعد، أي بعد إسلامهم واعتناقهم الدين الجديد، إمبراطورية عظيمة ممتدة، فأدخلوا الدين الإسلامي إلى دويلات وولايات روسيا العديدة وذلك عام (1312م), حتى أصبحت مدناً بكاملها مسلمة مثل بخارى و الكازاك ونحن نطلق عليها (قوقاز) أيضا (التركمان) و (كازاخستان)، وكانت الحكومة الروسية حينذاك قد منحت مطلق الحرية للمسلمين لأداء شعائرهم الدينية بشرط تسديد ضرائب للحكومة، بل قامت الحكومة الروسية بطبع القرآن الكريم عدة مرات باللغة العربية وبملايين النسخ, في عام (1762 - 1796) أصدرت الإمبراطورة كاثرين قانون الأديان الشهير الذي اعترف بالإسلام دينا رسمياً لفئة كبيرة من سكان الإمبراطورية الروسية إلى جانب الأديان الأخرى.
قبل ذلك استخدم الامبراطور بطرس الأكبر خيالّة من المسلمين في قطاعات جيشه، وكانوا من التتر والبشكير، وقاتلوا في حروبه، وذلك لما عرف عن الخيالّة شدة بأسهم، وحميتهم الضارية في القتال وقد استخدم الحجاج الروس طرقاً مختلفة للوصول إلى وجهتهم فالذين كانوا يسكنون سيبريا والأورال يفضلون السفر مشياً على الأقدام لزيادة الأجر والثواب، وعندما مدت سكة حديد طشقند زاد عدد الحجاج.
سكان القوقاز يفضلون الطريق الجبلي الوعر المار في كابول ويقدمون بطاقات هوية للسلطات الأفغانية ونرى التذكرة بعد وجود البواخر سهلت الرحلات كثيراً.
كان الحجاج الروس يحملون معهم مبالغ نقدية تغطي مصاريف الرحلة، وأيضا بعض السلع للبيع مثل السماور وهو إبريق كبير من النحاس لصنع الشاي.
عام (1909م) تم إنشاء جمعية اسمها جمعية روسيا لمساعدة الحجاج ولحل مشكلاتهم وكان نائب مسلم موجوداً في الدوما أي البرلمان الروسي حسب إحصائيات سنة (1897م) كان عدد المسلمين الروس يزيد عن 11,5 مليون مسلم من بين 130 مليون روسي, وتقول بعض الوثائق ان الكثير من العرب هاجروا إلى روسيا وسكنوا في مدن وأرياف روسيا وقد بنوا قرى خاصة بهم وحتى الآن تسمى عرب تر أي (ريف العرب),وظلت قبور العرب المسلمين حتى عهد قريب تحمل أسماءهم منقوشة بالخط الكوفي الجميل الذي كان متداولا حينها.
هناك فئة من الشعراء الروس اطلقوا عليهم لقب (الشعراء الموالين) وقد ألفوا أشعارهم باللغة العربية التي كانوا يتعلمونها ويحترمونها لأنها لغة القرآن الكريم، كما وضع علماء (أذربيجان) المدينة الإسلامية الكثير من المؤلفات في اللغة العربية، والنحو، والعلوم التطبيقية، وذلك منذ (680م).
كان الحجاج الروس المسلمون بعد عودتهم إلى بلادهم قادمين من مكة المكرمة، يكتبون مذكراتهم بلغاتهم الأهلية مثل (البشكيرية، والتترية، وغيرها) وأصبحت وثائق يستفاد منها جغرافيا واجتماعيا ودينيا في البحث والدراسة عن تلك الحقبة, أما الأثرياء منهم فكانوا يشترون خيول الجزيرة العربية الأصيلة التي كانت شهيرة جداً وباهظة الثمن.
لقد اشترك الكتاب والشعراء الروس في طرح ومناقشة القضايا الإسلامية والعربية في مؤلفاتهم، لقد هيمنت عليهم الروح الشرقية وسميت تلك الحقبة في الأدب الروسي ب (الحقبة الشرقية الإسلامية).
لقد انتشرت النزعة الشرقية في مجال الفكر واستمد (تولستوي) أفكار رواياته من روح الشرق وغموضه وروايته الشهيرة القوقاز خير دليل.
واستغرق الشاعر الروسي العظيم بوشكين في قراءة التاريخ العربي للجزيرة العربية ونظم العديد من القصائد حولها، حتى أطلقوا عليه اسم أبو الأدب الكلاسيكي الشرقي في روسيا .
إنها الوثائق ,, عالم من الحقائق المجردة، والأحلام والغموض المثير للخيال والأشجان,, ويظل الإنسان في كل مكان ,, هو المادة والأصل ومحرك الأحداث والوجدان.
|
|
|
|
|