| الثقافية
اذا كان لابد لكل شاعر يلتزم بانسانيته مثلما يلتزم بشاعريته وينتمي الى عالمه الانساني بقدر ما ينتمي الى عالمه الابداعي، من موقف يجسده انتاجه ويعكسه، فهل يمكن الاهتداء الى أو معرفة هذا الموقف؟ واذا استطعنا الاهتداء الى هذا الموقف ذاتيا كان أو اجتماعيا أو يتجاوز ذلك الى المشترك الانساني فكيف نهتدي الى الرؤية التي دفعت به في نصه الواحد أو نصوصه او مرحلته الشعرية المتجانسة الى اتخاذ هذا الموقف من نفسه ومن المجتمع والحياة والكون وجدلياتها,, ماضيا وحاضرا ومستقبلا، لأنه ان كان ينتمي الى الشعرية والانسانية ويلتزم بهما في الآن نفسه فلابد ان يمتلك هذه الرؤية وهذا الموقف بشمولية تختصر وتتجاوز وتصهر وتوحد الأزمنة والأمكنة والمجتمعات.
ثم كيف نستطيع التمييز بين الرؤى والمواقف داخل النص او النصوص او السياق الذي يشتغل عليه الشاعر، وكيف تتم مقاربة المتناقضات التي تظهر في نصه او نصوصه أو مرحلته او تجربته الابداعية، اذا كان كمبدع أكثر من غيره معاناة للصراعات الداخلية امام المتناقضات التي يعيشها أو يراها وتنعكس عليه وعلى ابداعه.
واذا كانت الرؤيا تسافر، دائما وأبدا، على أجنحة الواقع والخيال والحدس والاحلام والاستشراف، الى مستقبل قد يتحقق او لا يتحقق، وفي ترحال دائم لا يستقر، فكيف تستقر المواقف التي يتخذها الشاعر بناء على هذه الرؤى، والمواقف تتطور بتطور الرؤى وتتكامل معها بحيث يمكن لها ان تتبادل معها الأدوار أحيانا الى درجة ان مواقف طارئة قد ينتج عنها رؤى جديدة بخواص استشرافية جديدة ينتج عنها مواقف أكثر جدة وقوة وتحديدا وثقة؟ وكيف يمكن القبض على هذه الماهية المتحولة أبدا في حالة ثبات؟
ربما، كان أكثر الجدل حول هذا الموضوع وبخاصة بين النقاد الذين يحاولون قراءة هذه المفاهيم الجديدة ضمن ثقافتهم أيا كانت، عربية قديمة أو جديدة أو مجلوبة من الآخر على علاتها وخصوصياتها أو المجلوبة بعد تهجينها وتوظيفها ثقافيا واجتماعيا وفكريا، ونجاح القلة منهم في مثاقفة الآخر والاستفادة من مثاقفته الأصيلة الحرة الواعية، وتطبيق الأساليب والمناهج والتقنيات في قراءة ما استجد على خارطة الشعر العربي من تجديد غيّر حدود هذه الخارطة وأعاد تشكيل ملامحها كان منصبا على طبيعة الرؤى والمواقف وطريقة تجسيدها ومصادرها، وبخاصة انطلاقها من ذاتية التجربة الى عموميتها الانسانية الثرية المنعتقة من قيود الأزمنة والأمكنة والمجتمعات، وفي موازنة دقيقة بين الذاتية والانسانية، بحيث تحمل التجربة الذاتية تجربة كل انسان، وتحمل بشموليتها آثار مبدعها ولمساته وأسلوبه الخاص وعزفه المنفرد على اوتار النفس الانسانية، وهو يلامس آلامها وخيباتها وتناقضاتها ومشاكلها وأحلامها وآمالها، فيما هو يلامس ما يحيط به من عناصر واقعه اليومي ويجادل روحه وجسده ومكانه في لحظة استطاع اقتناصها وتصويرها بكل ما تحمل من تراجيديا وكوميديا رمادية ونشوة آلام فنية عذبة.
ربما، أصبح ما يترتب على امتلاك الشاعر لرؤيا وصدوره عن موقف وتجاوز تجربته الذاتية ذاتيتها الى المشترك الانساني، الادراك بأن للشاعر دورا حقيقيا وجديدا ينبع من التزامه وانتمائه.
ولان الالتزام ينبع من الانتماء للانسان ويلتزم به، فلم يعد الشاعر الجديد ملتزما بمدرسة أدبية أو سياق أو منهج ابداعي او توجه ايدلوجي او فكري يرسم له خطوات أحلامه وابداعه وطريقة مجادلته وتعبيره ، بحيث تقيده بتعليمات وحدود وقيود لا يخرج عنها، فيصبح مجرد مقلد مبرمج يسير وفق ما تم رسمه له من حدود وطرق تملي عليه الرؤى والمواقف وطرق التعبير التي ليس له من دور فيها سوى صياغتها، وبنوع من الصنعة، على الورق، كما حدث ويحدث مع كثير من الشعراء المؤدلجين الذين لم يزد شعرهم عن كونه ترديدا لتعليمات الحزب او المذهب أو العرق، والاعلان عنها وترويجها.
فبماذا يلتزم الشاعر، والى أي شيء ينتمي؟
هل يلتزم بكونه انسانا، يرى نفسه في الناس ويرى الناس في نفسه، ويجادل القضايا المشتركة، روحيا وجسديا واجتماعيا، متجاوزا وكاسرا بينه وبينهم الحواجز، مصرا على ان يكون لهم أكثر من زرقاء يمامة ترى بعينيها وبقلبها وبحدسها، رؤية شاملة لا تكتفي بالوصف ولا تبدع فقط في نقل الحالات، فيما هو يتجاوز، وهو يؤدي رسالته، حدود المذاهب والمدارس والانواع الأدبية والفنية والتعليمات والقواعد والأعراف والأنماط والايدلوجيات ودعائياتها وحدود الابداع الجمالي المحض الى درجة ان يشك هو نفسه في نفسه مبدعا وانسانا اذا تصور ان الفن للفن فقط، أو ان الفن للمتعة او التسلية أو الترفيه او التخدير، او ان الفن مادة يتم بها تشكيل هذيان وأوهام اللاوعي في غيبيات شطحاته او برج عاجيته المتعالية في أساليبها التي تعكس غرورها ونرجسيتها ووحدتها واحتقارها لبني جنسها، أو رومانسية تمارس الهروب والانين في احلامها وعزلتها وذاتيتها وانزوائها وهروبها من واقع الانسان الجديد وقضاياه المعاصرة الى الطبيعة او البداوة او التهويم في كل ماهو بعيد عن صراعات الانسان الجديد وجدلياته المدينية والخوف من توظيف أي كلمة مهما كان ظاهرها في صالح انسان الحاضر والمستقبل.
|
|
|
|
|