| مقـالات
حينما أكون خِرِّيتاً ذا دراية ورواية قامت عليهما نواهض الشهود لاجرم أكون لك معينا صائباً على مرادك للوصول إليه ولو طال المطال، إن العرانين، وما بالسبيل من شاهد مقيم حين تراها تجزم جزم القواطع أنني ذلك الخريت تراه من خلال وصفه ورصفه، وتراه من خلال صدقه ودقته وأمانته، إن الخطأ وقد قامت نواهض الحس على صدق وصفي ونقلي، إن الخطأ حين يقع إنما منك بفهم عجول أو تلقف غير دقيق او لحب الوصول إلى مرادك ولو تعسر ذاك الوصول لحرارة حب بلوغ المراد، ولا مراد لامرئ فيه من العجلة بقدر ما فيه من خفة العقل وهمج الظنون.
إن سبيل بلوغ القصد على ناحية هينة لينة سهلة منبسطة معلومة آمنة إن هذا السبيل له أهله ولو تعدد من ليسوا كذلك ولو تعددوا وشاع ذكرهم في الاصقاع وسرى في الآباد، فإنما يُعرف أهل كل علم ودراية بكيفية حالهم لها بكمية مقالهم، إنني عارضه أمراً ذا بال عارضه ممن قيده أعرضه من صاحبه عن صاحبه إلى المستدل العاقل الأمين ليقبض عليه بيديه ويعض عليه بناجذيه فيسلم من ذم العجلة عنده او الحكم عليه بخفة العقل ورعونة الأخذ وهشاشة الحكم.
روايات إمام أهل الرواية والدراية عن هذا الخبر جم العطاء أمين النقاء حر النظر، رواياته عن هذا الخبر هي الروايات أجملها ورصفها سيد أجمع الخريتون انه: لها وابن بجدتها وإنما صالح اللحيدان يعرض ما نقله الإمامان كابراً عن كابر إماما عن إمام ثقة عن ثقة ثبتاً عن ثبت، البخاري يروي رواية الجهبذ الخبير الذي قال الناس عنه: من هذا: إنه الإمام الثقة الثبت الجليل، وناهيك بمن قال عنه أهل الأرض: دعوه: إمام إمام، ولتذهب العواطف والعصبية والحسد والجهل ليذهب هذا كله في: (فرن حار لئيم خسيس) وليبقى هذا الرجل تترا نجماً لا يزول.
وها هو جامع روايات هذا السيد الإمام النووي في رياضه الكبير يقول في ص 632 - 637: (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم بأم إسماعيل وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً، فتبعته ام إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم اين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ,, ولا شيء؟
فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها قالت له: الله أمرك بهذا؟
قال : نعم.
قالت: إذاً لا يضيعنا.
ثم رجعت.
فانطلق إبراهيم صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان عند الثنية (1) حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه فقال: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع (2) حتى بلغ يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد مافي السقا عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط (3) فانطلقت كراهية ان تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي (4) تنظر هل ترى احدا فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها، فنظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم (فذلك سعي الناس بينهما) فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً.
فقالت: صه تريد نفسها, ثم تسمعت، فسمعت أيضاً.
فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تُحوِّضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف، وفي رواية بقدر ما تغرف.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم رحم الله ام اسماعيل: لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معيناً (5).
قال فشربت، وأرضعت ولدها.
فقال لها الملَك: لا تخافوا الضيعة فإن ههنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله.
وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية (6) تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق: كدا فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائناً (7).
فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء.
فأرسلوا جرياً أو جريين (8) فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم.
فأقبلوا وام إسماعيل عند الماء.
فقالوا: أتأذنين لنا ان ننزل عندك؟
قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء.
قالوا: نعم.
قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا، فارسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات وشب الغلام، وتعلم العربية منهم وأنفسهم (9) واعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل.
فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته (10) فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبغي لنا وفي رواية: يصيد لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم.
فقالت: نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة وشكت إليه.
قال: فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من احد؟
قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، فسألني : كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟
قالت: نعم امرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك.
قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك! الحقي بأهلك.
فطلقها، وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه، قالت : خرج يبتغي لنا، قال : كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله.
فقال: ما طعامكم؟
قالت: اللحم.
قال: فما شرابكم؟
قالت : الماء.
قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه (11).
وفي رواية فجاء فقال : أين إسماعيل؟
فقالت امرأته: ذهب يصيد.
وقالت: ألا تنزل، فتطعم وتشرب؟
قال: وما طعامكم وما شرابكم؟
قالت طعامنا: اللحم وشرابنا الماء.
قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم.
قال: فقال ابو القاسم صلى الله عليه وسلم بركة دعوة إبراهيم
قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه.
فلما جاء إسماعيل.
قال: هل أتاكم من احد؟
قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته, فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير.
قال: فأوصاك بشيء؟
قالت: نعم: يقرأ عليك السلام، ويأمرك ان تثبت عتبة بابك.
قال: ذاك أبي، وانت العتبة، أمرني ان أمسكك.
ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلاً(12) له تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد.
قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر.
قال: فاصنع ما أمرك ربك؟
قال: وتعينني.
قال: وأعينك.
قال : فإن الله أمرني أن أبني بيتاً ههنا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر (13) فوضعه له فقام عليه، وهو يبني، وإسماعيل يناوله وهما يقولان (ربنا تقبل منا إنك انت السميع العليم) (14).
وفي رواية : إن إبراهيم خرج بإسماعيل وأم إسماعيل معهم شنة (15) فيها ماء فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فتبعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا كدا نادته من ورائه: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟
قال: إلى الله.
قالت: رضيت بالله.
فرجعت وجعلت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها حتى لما في: الماء.
قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً قال: فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونظرت هل تحس أحداً، فلم تحس أحداً، فلما بلغت الوادي سعت، وأتت المروة وفعلت ذلك أشواطاً.
ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله، كأنه ينشع (16) للموت فلم تقر نفسها.
فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت فلم تحس أحداً، حتى أتمت سبعاً، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت.
فقالت: أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل فقال بعقبه هكذا، وغمز بعقبه على الأرض فانبثق الماء فدهشت أم إسماعيل، فجعلت تحفن (17) وذكر الحديث بطوله، رواه البخاري بهذه الروايات كلها (18).
وقد قامت الدلائل بقرائن الحس والمعنى ودلالة الحال على أن أصح ما جاء في هذا الخبر بتمامه هو ما رواه سيد المحدثين بهذه الروايات كلها كما قيده النووي، والذين يتخبطون النقل ويحطبون الليل حطبه ما بين (برص وعقرب وافعى وخنفسا) إنما يحكمون على أنفسهم بجهل مسالك البر ومسالك الليل والنهار، ويخلطون بين: الضبي والضبع ويتيهون في قفار ليسوا لها وما هي لهم برفيق، ومع ذلك يزعمون أنهم: هم: هم، وما دروا ان الجهل يغطي العقل فينكسه ويرديه ويعميه ويبليه.
المراجع والبيان
(1) الثنية قال في الهامش: الحجون.
(2) سورة إبراهيم آية 37.
(3) يتمرغ من شدة هول العطش.
(4) ما بين الصفا والمروة (المسعى).
(5) يجري على وجه الأرض (الهامش ) 633.
(6) مرتفع من الأرض غير كبير غير مستوي السفح.
(7) يتردد حال الطيران ولا يستقر.
(8) من يخبرهم خبر الأمر.
(9) أعجبهم , وأعجبوا به.
(10) يتفقد أهله وما حولهم.
(11) من جمع بين اللحم والماء فقط آلمه بطنه.
(12) يصلح النبل ليصيد به بعد وضعه في القوس.
(13) مقام إبراهيم.
(14) البقرة 127.
(15) قربة خشنة للسفر ونحوه فيها ماء.
(16) ينشع يستعد / من شدة العطش.
(17) الحفن بكسر الحاء وفتحها ملء الكفين.
(18) النووي الرياض ص636.
قلت, ورواه غير البخاري بأسانيد جيدة بألفاظ أخرى مقاربة ،ولا عبرة بما رواه أهل السير والأخبار إلا ما وافق السند فيه شروط الصحيح فتنبه وكن حذراً.
|
|
|
|
|