| الاخيــرة
وهذا القول قد لا يرمي إلى الكذب الصُراح وإنما يعني بعض المبالغات الغريبة,, أو بعض الخيالات التي يرتاح لها السامع مع أنها بعيدة عن الحقيقة كل البعد,.
والشعر له تأثير السحر في الخصومات والمفاخرات,, وذكر العيوب والسيئات,, وكم قبيلة أنزلها من عليائها بيت من الشعر,, وأخرى رفعها بيت آخر,,!
ولذلك فإن العرب إذا نبغ في بعضها شاعر فحل غبطتها القبائل الأخرى وزفت إليها التهاني القلبية التي تدل على ما للشاعر من مكانة رفيعة بين القبائل التي تتخذ من الشاعر لساناً لها يسجل مفاخرها وأمجادها ويدافع عن شرفها ويخيف الشعراء من القبائل المتنافسة من أن تحاول مس شرفها أو انتهاك مفاخرها وحرماتها,,!
***
وإذا خرجنا من هذا الحيز الضيق للقبيلة إلى دنيا الحكام فإننا نجد أن الملوك والرؤساء يصطفون لهم شعراء خاصين يقومون بنشر فضائلهم وتسجيل مفاخرهم وذب الأعداء عن المساس بتلك الفضائل والمفاخر,,!
ولنا قدوة برسولنا الكريم الذي اختار حسان بن ثابت ليذوذ عن حمى الدعوة الإسلامية,, ويكافح أعداءها بلسانه الذي هو أحد من السنان كما قال:
لساني وسيفي صارمان كلاهما ويبلغ ما لا يبلغ السيف مذودي |
وقد صدق حسان بأن لسانه يفلق الحجر ويقص الشعر,,!
أما السيف فان للحروب رجالاً يُعرفون بها
***
ولقد كنت منذ الصبا أتأثر بالشعر وأطرب له وأحفظ منه الكثير ولكنه يتبخر ولا يبقى منه في ذاكرتي إلا أقل القليل.
ومن هذا القليل بيتان من الشعر يهدد بهما جرير بعض شعراء اليمامة الذين يتحرشون به ويحاولون أن يستثيروه وقد أنذرهم بهذين البيتين من شعره:
أبني حنيفة كفكفوا سفهاءكم إني أخاف عليكموا أن أغضبا أبني حنيفة إنني إن أهجكم أدع اليمامة لا تواري أرنبا |
انني لم اقرأ هذين البيتين إلا خفت وارتعبت من هذا الشاعر الذي سوف يحصد الشجر ويفتت الحجر حتى يترك البلاد جرداء ملساء,, وتنكشف فيها العيوب,, وتبرز الذنوب,, ولا يبقى فيها شيء مستوراً مهما كان صغيراً أو مغموراً,,!
***
ومما يروى حول هذين البيتين من الشعر حادثة حدثت في عصرنا الحاضر، قال الراوي إن الدكتور طه حسين عميد الأدب في الشقيقة مصر جاء إلى جدة في مناسبة ثقافية ومعه بعض مفكري مصر وأدبائها,, وأقيم لهذا الوفد احتفال كبير ألقيت فيه بحوث ومناقشات في شؤون أدبية متعددة الجوانب,,!
ووقف الدكتور طه حسين ليلقي كلمة في هذه المناسبة وعندما انتهت كلمته وجهت إليه بعض الأسئلة من الحاضرين فأجاب عليها,, ومن جملة هؤلاء الذين ألقوا الأسئلة أديب كان هواه مع الأديب العقاد فهو يناصره في جميع أفكاره,, وكان بين العقاد وطه حسين مناقشات وخصومات أدبية، وقد شم الدكتور طه حسين من أسئلة هذا الأديب روح الاثارة والإحراج فلم يكن منه إلا أن قال هذا البيت:
أبني حنيفة كفكفوا سفهاءكم إني أخاف عليكموا أن أغضبا |
وعرف القائمون على الحفل غضب الدكتور طه حسين من تلك الأسئلة فغضبوا لغضبه وأسكتوا هذا السائل بعنف,, وكادوا أن يخرجوه من ذلك الحفل أو أخرجوه، لا يدري الراوي أيهما أرضى الدكتور طه حسين,.
وهكذا صارت أبيات جرير يصح ان يستشهد بها في مناسبتها في كل زمان ومكان,.
عبدالكريم الجهيمان
|
|
|
|
|