| مقـالات
قبل أيام وأنا أطالع احدى صحفنا المحلية، أتلمس اخبارا تشيع البهجة في النفس، راعني ما قرأت وأذهلني ما علمت,,, فكيف لشابة بكامل عافيتها وصحتها، وفي أوج عطائها ونشاطها أن تدفن حية,,, كيف بالامكان أن تغلظ قلوبنا وتهون علينا تلك الشابة فنحملها بأيدينا وهي تنظر إلينا لاهثة متعجبة لنلقي بها نحو السراب,,, كيف نشيعها خفية في الظلام دون معزين أو مواسين جاعلين منها جنازة يتيمة إلى حيث لا أحد يكتشفها أو حتى يودعها الوداع الأخير,,, أو لم يكن من حق من أنجبوها أن يودعوها,,, أو لم يكن حقا لمن أحبوها وعاشوا معها أن يبكوا عليها ويفتقدوها,, أو لم يكن من الإنصاف في أقل تقدير أن تتلقى تلك الشابة فحوصات تؤكد حياتها من موتها,,.
فمنذ متى تدفن الأشياء حية وتنهى حياتها قبل ان تلفظ أنفاسها الأخيرة,,, وكيف لنا أن نقدر عمر الأشياء ودنو الأجل أو حتميته,,, إنها حقا جنازة ولكنها ليست لكائن من البشر، بل هي جنازة أنظمة تعليمية حديثة طبقتها مدرسة شابة متألقة,,, قرأت قبل عدة أيام خبر إنهائها وإزالتها,,, يقول الخبر: تحويل خمس مدارس أهلية بالرياض إلى حكومية,,, ففي قرار مفاجىء لطالبات مدارس طويق الأهلية بحي السفارات التابعة للهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض,,, سلمت الهيئة المدارس بمراحلها الخمس إلى الرئاسة العامة لتعليم البنات تمهيدا لتحويلها لمدارس حكومية اعتبارا من العام الدراسي الجديد .
ومع كل تقديري للرئاسة العامة لتعليم البنات التي لا تألو جهدا في تقديم افضل الطرق والمناهج التي تخدم بناتنا واخواتنا في كافة مراحل التعليم، إلا أن هذا القرار يعني تغييرا في شخصية هذه المدرسة ومحتواها التعليمي الأهلي وما تشتمله من مواد وموضوعات اضافية على ما يشتمله التعليم الحكومي، والأهم من هذا كله ما تميزت به المدرسة من الأنظمة التعليمية المطبقة بها,,, فمن لا يعرف هذه المدرسة أو لم يكن له بها صلة لن يتأثر أو يدرك مدى الخسارة التي نرتكبها حين نوقف مدرسة أو نظام تعليمي في أوج عطائه وفي مرحلة متقدمة من نجاحه,,, ولو تسنى لهذه المدرسة البقاء والاستمرار لقدمت لهذا الوطن مفخرة تعليمية تواكب تلك التي قدمتها منتسوري في إيطاليا، أو تلك التي ترتكز في تطبيقاتها على فلسفة جون ديوي في أمريكا، حيث يصبح الطالب محور العملية التعليمية,,, فالتعليم لا يقوم من خلال المناهج المعدة والإمكانات المادية المترفة، بل يتحقق اضافة الى ذلك عبر الأساليب التعليمية التي تحقق أهدافها من خلال الارتقاء بشخصية الطالب والمعلم معا,,.
إن شجني وحزني على تلك المدارس ليس نابعا من كوني فقط أماً لطالبة تدرس في المرحلة الابتدائية لتلك المدارس، بل انه أسف باحثة وأكاديمية تعمل في الجامعة وتهتم كثيرا بالأساليب التعليمية الحديثة مما حذاها لإجراء دراسة علمية لمدة عام دراسي على أحد الأنظمة التعليمية التي تبنتها مدارس طويق الابتدائية، والتي قررت إدارتها وبجهود كبيرة الخروج عن المألوف وتطبيق أسلوبين تعليميين متميزين في تلك المدرسة، أحدهما كان نظام الحلقة والأركان في المرحلة الابتدائية الدنيا، والآخر هو نظام أطلق عليه مسمى المحطات في المراحل الابتدائية العليا,,, وقد أتيحت لي الفرصة لتطبيق دراسة على النظام الأول لدراسة اثر تطبيقه على الطالبات والمعلمات ومردود ذلك على الأسرة والمدرسة بشكل عام,,, وقد كانت نتائج تلك الدراسة مذهلة وجديرة بالافتخار مما حذا بإدارة المدرسة بالتخطيط لطرح تلك التجربة على المسؤولات والمتخصصات في القطاع التعليمي لمناقشة نتائجه ودراسة امكانية الاستفادة من تلك التجارب في المدارس الأخرى في مدينة الرياض وربما بقية مدن المملكة,,, إلا أن قرار الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض قد جاء كالقدر ليقف أمام تحقيق ذلك الحلم الذي كان حلما لمدرسة واحدة وأصبح حلم مئات من الأسر التي تفاءلت بتلك الأنظمة واعتبرتها تطويرا نوعيا في أساليب التعليم في المملكة,,, فكم من أسرة سمعت عن تلك الأنظمة وكانت تخطط مع مطلع هذا العام لتسجيل بناتهن في تلك المدرسة، وكم من طالبة مسجلة بتلك المدارس غادرت خلال الإجازة الصيفية مطمئنة على مكانها عند العودة ولكنها لم تجد لا المعلمات ولا المنهج ولا النظام ولا المدرسة التي اعتدن عليها وتفوقن من خلالها,,.
أعود هنا من جديد لقرار تحويل المدارس لأطرح سؤالا يحمل عتبا من نوع خاص للقائمين على التعليم: أليس من حق المسئولات والعاملات في مدارس طويق والطالبات الملتحقات بها، وأسرهن أن تتم الاستنارة بآرائهن قبل الشروع بعملية التحويل، الذي كان بمثابة عقوبة بالنسبة لمن انتسب لهذه المدارس,,, وهكذا فقد جاء التحويل وبهذه الفجائية مربكا للأهالي، وهدما لحلمهم الذي راودهم في تطوير أداء بناتهن,,, فليس الحل لهذا الوضع في منظورهم في البحث عن مدارس أهلية أخرى وما أكثرها ولكن التحدي الأكبر يكمن في العثور على أنظمة تعليمية تواكب تلك التي كانت تطبقها مدارس طويق,,, فعندما تم اختيار الرياض عاصمة للثقافة كان ذلك لتميزها وانفرادها بين بقية عواصم العالم مما جعلها جديرة بهذا اللقب، فكيف إذن يتم تشييع جنازة ثقافية في عاصمة الثقافة,,, وبهذا الصمت الهائل,,, ويظل الأمل يحذونا في أن تعود مدارس طويق كما كانت عليه,,, لنحتفي جميعا بهذا الموسم الثقافي,.
*جامعة الملك سعود
|
|
|
|
|