| مقـالات
قلت: اننا أمام عقل، وفكر، ووعي، ومعرفة، ولكل مفردة من هذه المفردات علاقة مع بعضها، تجمعها حتى تكاد تكون شيئا واحدا، وتفرقها حتى تكاد تكون أشياء أخرى, فالوعي يختلف عن المعرفة من وجوه، ويلتقي معها في وجوه كثيرة, المعرفة اكتساب معلومات قائمة عن طريق الحواس أو الاستنتاج العقلي أو عن طريق قياس التماثل, والوعي طاقة ذهنية لا تسمح بالمعرفة التراكمية، وانما تمارس معها توليدا فكريا، واكتشافا لعلاقات، وبرهنة عن نظريات، واستخلاصا لبنى ليست على شاكلة التراكم، وقد يقال: ان هذا لون من ألوان المعرفة الاستنباطية أو الاستقرائية.
والحق ان مكتسبات الوعي في النهاية جانب من المعرفة، غير أنها ليست مكتسبات من الخارج، وانما هي استنتاج من الداخل، يولده التفاعل والتأمل واستذكار الأشباه والنظائر وترتيب ذلك وتقليبه على كل وجوه الاحتمال والنظر في الأشياء من مواقع متعددة, وعلى ضوء ذلك نستطيع القول: ان المعرفة مكتسبات خارجية والوعي استنتاج داخلي، تكون المكتسبات الخارجية من محركاته بحيث تتفاعل فتنتج الرؤية أو الموقف.
وللفيلسوف الوضعي زكي نجيب محمود رؤية حول ثقافات الشعوب، اذ يضرب مثلا بالنمل، والنحل فالنمل يجمع فقط، يراكم الأشياء ويبقيها على ما هي عليه, له جده، ودأبه، ونظامه، وانضباط حركته، ولكن ليس له توليده وتحويله, والنحل له كل ذلك، ولكنه لا يجمع، ولا يراكم، ولا يدع الأشياء كما هي، وانما يمتص نسغ الزهور، ورحيقها، فيحوله الى شيء آخر, وهو بهذا المثل يريد من أهل الثقافات والفلسفات، أن يكونوا كالنحل الذي يحول الأشياء الى مواد أخرى، أكثر فائدة، وأكثر مغايرة, وهذا ما نريده نحن عندما نتحدث عن الوعي, اننا نرفض المعرفة التراكمية، ونحبذ المعرفة التفاعلية، نكون كالنحل ولا نكون كالنمل.
وحين لا نجد صعوبة في الفصل بين: الوعي و المعرفة نجد ان استعمالات الناس لكلمة الوعي متناقضة، أو قل متباينة على الأقل, ومما زاد هذه الكلمة تعقيدا ، انها تحولت من دال ومدلول لغويين الى مصطلح متعدد الحقول, فعلماء النفس يعطونه معاني متعددة, والفلاسفة يحملونه دلالات تكاد تكون مترادفة أو متناقضة, فهو يدل على المعرفة المجردة، وعلى الاحساس بالوجود، وعلى الاحساس بالذات، ويدل على اليقظة المقابلة للنوم, وقد يتقاسم كلمة الوعي الأناسي وسائر الحيوانات الأخرى في اطار الوعي الانتباهي غير المركب، والاستجابة الشرطية، وبعض الحيوانات تنطوي على نباهة ليست لغيرها من سائر الحيوانات الأخرى.
نحن نعرف ان ما سوى البشر من المخلوقات الأخرى تحس، واذا أحست فهي تعي، واذا وعت فهي تتصرف بناء على هذا الوعي, وقد يسمى ذلك بالغريزة الآلية المودعة لحفظ النوع، وهي غريزة غير نامية، وغير متغيرة، وغير مكتسبة في كثير من الأحيان, على خلاف الوعي النامي والمتغير والمكتسب، فهروب الفأرة من القط مثلا غريزي لا كسبي, واذاً فالوعي بهذا المفهوم وبهذا المستوى المستقر يتقاسمه الحيوان والانسان والنبات، ولا يسمى وعيا على اطلاقه، وانما هو غريزة أو هدية كما في قوله تعالى: أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى , فكل شيء يشعر بما حوله، ويتصرف وفق هذا الشعور.
حتى النبات يقال: انه ينقبض وينبسط، وان انقباضه وانبساطه نوع من الاحساس المرتبط بالاشمئزاز, وفي كل لحظة نرى آيات الله تتجلى في الآفاق وفي الأنفس، ومع هذا فليس كل تصرف يمارسه المخلوق نتيجة وعي, ان هناك حركات لا دخل للوعي فيها, وهناك أفعال تلقائية يمارسها الانسان دون وعي، أو احساس، أو تفكير أو استعداد, وأكثر الأجهزة الجسمية تؤدي وظائفها بدقة وانضباط وتلقائية دون وعي، كالجهاز الهضمي والتنفسي وغيرهما, فكل مخلوق يغط في نوم عميق وأجهزته الداخلية تعمل بانتظام وانضباط وباستمرارية، ولا دخل للوعي في رفع فاعليتها أو تنشيطه.
ومع ان جميع المخلوقات الحية لها قسط من الوعي، أو الغريزة، أو الهداية، هذا القسط يستجيب لمتطلباتها، ويمكنها من المحافظة على النوع لاستمرار الحياة، فإننا لا نعني هذا القسط المشترك، ولا نرى الحديث فيه, وحين أحدد الموضوع بوعي الذات والآخر ، فان الآخر يكون من الأناسي، بحيث يشمل الأفراد والجماعات، ويتجاوز التعددية الى الطوائف، والدول، والمنظمات، ويكون من الأفكار السائدة والطارئة: القديمة والحديثة, ووعي هذا وذاك يتطلب مواجهة معينة عبر امكانيات خاصة تميز المتعامل عن العامة.
ان ما نريده من الوعي، هو ذلك النشاط العقلي، الذي تثيره مشكلة: خاصة أو عامة، دينية أو دنيوية، حسية أو معنوية، كبيرة أو صغيرة، علمية أو فكرية, فيسعى الانسان للنظر فيها، وتقليبها، وفحصها بمساعدة المكتسبات الفكرية، والصور، والذكريات، والانطباعات، والممارسات، والخبرات, ان التفكير الخلاق الذي لا يكتفي بإعادة تركيب الأشياء أو تفكيكها, انه التفكير الواقعي المرتبط بالظروف التي تفرضها الطبيعة الحقيقية للأشياء, انه التفكير الذي يتجاوز ذات القضية الى كل ما يحيط بها وما يؤثر فيها.
الوعي الذي نطمح اليه، ونرى أن فقده أو فقد شيء منه مخل بالأهلية والوجود الكريم، لا يتأتى بالمعرفة المجردة والتحصيل التراكمي، بل يتخطى ذلك الى منهجية منضبطة واستكناه دقيق وتصرف واع محكم، تمكن الفعل العقلي من ترتيب أدواته، وتحديد أسلوب مواجهته للأشياء, ان الفهم العميق للأشياء يحتاج الى منهج دقيق مناسب قابل للتكيف بعيد عن الجمود والتردد أو التهور والاندفاع غير المحسوب، وحين نلمح الى الشيء ونقيضه، فاننا نستدعي مطارحات الثنائيات في التفكير الفلسفي، بحيث نعرف كم هو الفرق الدقيق بين الشجاعة والتهور والكرم والاسراف، ان ما يقوله المبالغون: ونكب عن ذكر العواقب جانبا ليس محمدة على اطلاقه، وقول الله تعالى: فإذا عزمت فتوكل على الله محمدة على اطلاقه، اذا جاء بعد فعل الأسباب كالمشورة والاستعداد المادي, ان الوعي المطلوب يعني تحرير المنهجية وتصفيتها من شوائب العاطفة الانفعالية والمغامرة التي لا تضع للعواقب حسابها، ان الوعي يعني الفعل دون الانفعال، فالعصر قد بلغ من علميته ومنهجيته حد التوثين, والاسلام يملك المنهجية الدقيقة المنافسة.
والمسلم مطالب بأن يتناغم مع المستجدات في ظل المحافظة على الثوابت التي لا تتم اسلامية المسلم الا بها, وليس من مقتضيات الثوابت ما يمنع من مقاربة هذه المستجدات والاستفادة منها لخدمة القضايا الرئيسة في حياة الفرد والأمة, وفي الحديث: أنتم أدرى بأمور دنياكم وهي دراية لا تحيد حاكميه الله, والرسول صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في أمور الدنيا، وبالذات أمام النوازل, والعلماء يؤكدون انه لا اجتهاد مع النص، بمعنى ان النص ينطوي على جاهزية الحكم، والاجتهاد يكون في حالتين:
استنباط أكبر قدر من الدلالات في النص لمواجهة النوازل.
البحث عن حكم النوازل في غياب النص وهنا يكون البحث مناطاة الأحكام المتشابهة مع النازلة، والاجتهاد مع غياب الوعي التام, والعلماء يضعون شروطا للاجتهاد، والاسلام يثيب على جهد الاجتهاد، وان وقع المجتهد في الخطأ, واذ يكون فعل الآخر ينسل من مطابخ مؤسساتية، بحيث وضعت له كل الاحتمالات، فان المسلم مطالب بأن يعي مثل ذلك ويواجه الآخر بذات المؤسسات وعين التفكير والتقدير.
ولعلنا نعرف محاولات المفكرين الانسانيين الجادة في تحرير نظرية المعرفة وعلمية المناهج، فالفيلسوف اليهودي الملحد سبينوزا وضع رسالة في اصلاح العقل , وهي مقدمة في المنهج، وفي قيمة المعرفة، وهي من طراز المنطق الجديد لفرنسيس بيكون، وقواعد تدبير العقل والمقال في المنهج لديكارت, والبحث عن الحقيقة لمالبرانس, وكل هذه الكتب محاولة لتطوير منطق أرسطو، واقامة منهج علمي، كمدرج للأشياء التي يحاول الانسان استكناهها واعداد نفسه لمواجهتها, واذا كان هناك اشكالية المنتج فان اشكالية المتلقي أشد تعقيدا، ومن ثم فقد شغل العلماء في نظرية التلقي ونظرية المعرفة وتبدت اشكالية التأويل ومستويات القراءة، وما تفرق المسلمون الى طوائف وملل ونحل الا من بعد ان جاءهم النص الحمال وواجهوه برؤى وتصورات متباينة، وتلك جهود تنصب نتائجها في تنمية الوعي وانضباط تفاعله مع الأشياء تفاعلا منتجا لا انفعالا مرتبكا، وفي إزاء نظرية المعرفة نجد نظرية التلقي ولكل أمة أو طائفة طرق تلقيها كالحدس والكشف والتأمل والاشراف والتدبر، ونظرية المعرفة أو التلقي قد تلجئان الى التأويل, هذه الجهود المتناقضة بلغت دركتها في تهميش الميتافيزيقا، وتوثين العلم، والشك فيما هو غير تجريبي، مما يندرج تحت مفهوم الغيب, والمسلم إزاء هذا النزوع المنهجي والإفراز المؤسساتي المادي مطالب بأن يعى المباح والمحظور، وله ان يتوغل في فهم الآخر على ما هو عليه والتقاط الحق من تضاعيف فعله، واسقاط الشوائب, والتشكل الذاتي وسط زحمة المعروض في عالم الفكر والرؤى، وتلك عمليات دقيقة لا يمكن ضبطها الا بوعي تام لمقاصد الشريعة من خلال نصها القطعي الدلالة والثبوت، وهو ما لم يعتمده عدد كبير من المفكرين, وفي هذا الاطار لن نضع اعتبارا لمنهج الشك والارتياب الديكارتي، ولا للبنية العقلية التي لا تعتمد البتة على النص التشريعي أو تعتمد عليه وفق تأويل خاطىء أو فوقية عقلية، كما هو عند معتزلة التراث أو معتزلة العصر.
وهؤلاء المفكرون الذين سقنا طرفا من مناهجهم وكتبهم مع ثبات ضلالهم يحرصون على التحرف لمناهج علمية تمكنهم من علمنة الحياة، وعلميتها، وأنسنة الفكر والثقافة بقدر يلغي دور الوحي، أو ينكر حصوله، على اعتبار ان الأنبياء عباقرة ادعوا النبوة, وقد أشار القرآن الكريم الى معرفتهم بظاهر الحياة الدنيا وغفلتهم عن الآخرة، والمسلم مطالب بأن يعي هذا الظاهر وألا يغفل عن الآخرة، قال تعالى: ولا تنس نصيبك من الدنيا وقال: وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين , فالمذموم العلم بظاهر الحياة الدنيا والغفلة عن الآخرة، وليس مجرد العلم, والآيات، والأحاديث، والآثار في فضل العلم والعلماء، والحث على طلب العلم معروفة مشهورة.
ان الهدف من هذا البحث استنهاض همة النخب الثقافية وقادة الفكر، لكي يتعرفوا على الفرائض الغائبة, إننا حين نحس بنقص الوعي، يجب ان نحيل هذا الاحساس الى طاقة خلاقة تحول رد فعل الى حالة فعل، يبحث عن مخرج من هذا المأزق الذي تعيشه الأمة الاسلامية بفعل أبنائها ومكائد أعدائها، وذلك باستكناه اشكالية الوعي, والدراسة تلك ليست مسحية لوضع قائم محدود بزمان أو مكان، انها نظرة شمولية لواقع الأمة الاسلامية والعربية، كما ان الحكم بفقد الوعي لا يتناول كل أفراد المسلمين ولا كل فتراتهم الزمانية, اذ هناك من يعي الواقع ويملك التعامل معه بعلمية ومنهجية وعقلية مستنيرة بنور العلم والايمان، كما لا يشمل كل الدول والطوائف، اذ هناك من الدول والطوائف من له وعليه في اطار بشريته، فالعصمة والملائكية غير قائمتين, وفي الوقت نفسه فالشر المحض غير قائم، والتقويم قائم على التغليب، وما لا نقدر على تجاهله واقع العالم الاسلامي والعربي المتدني والتبعي وسط العلمية الغربية والاستكبار العالمي.
إننا حين نؤكد على ضعف الوعي أو غيابه أو تزييفه في الواقع العربي والاسلامي، لا نمضي مع المتشائمين التيئيسيين الذين يراهنون على خروج العرب من التاريخ ممن يحشدون طوفان الأزمات لتأكيد رؤيتهم وتعزيز رهانهم, فنحن ضد اليأس، وضد جلد الذات، وضد تجييش العواطف، واثارة المشاعر, إننا نتفق مع أولئك في خطورة الاستعمار الاستيطاني العنصري الظلامي التوسعي الاذلالي الفاشي على حد قولهم, ونتفق معهم على أزمة الحكام الثوريين، وما جروه على أمتهم من مواجهات غير متكافئة، أدت الى نكسات موجعة، أثرت على نفسيات الشعوب، ونتفق معهم على تورط البعض في نفايات الحضارة الغربية وتعلقه بسلبياتها، ونتفق معهم في التورط في الخرافة والطقوسية الدينية الشكلية عند البعض, ونتفق معهم في مؤاخذة بعض الغلاة وممارسة الارهاب العشوائي والتسييس الثوري للاسلام ومناهضة المؤسسات الدينية المشروعة, ومع كل هذا لنا تحفظات كثيرة من أهمها ان مفهوم الخرافة والطقوسية الدينية عند أولئك تعني العبادة والحاكمية , في حين انها تعني عندها الطائفية المنحرفة، كما هي عند الباطنيين والمتصوفة من قبوريين وخرافيين وتحفظاتنا على بقية الآراء ليس هذا مجال استعراضها, ومع كل هذا التباين نرى ان من مصلحة الأمة العربية ان تسمو فوق خلافاتها، وان تعي حجم أعدائها، ودقة مكائدهم، وتعدد أساليب مواجهتهم، وان تسعى جاهدة لتوسيع المساحات المشتركة، وان تعمل ما وسعها العمل لرأب الصدع وتوحيد الكلمة، والتلاقي على المتفق عليه، واذا كان من غير الممكن في المنظور القريب تحقيق نجاحات في التكتل السياسي أو الاندماج الاقليمي فلا أقل من التفكير في الوحدة الاقتصادية والتجانس التعليمي والثقافي وتوحيد المسميات والمصطلحات لتكون خطوات أولى في سبيل الوحدة الكبرى المأمولة.
|
|
|
|
|