أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 14th August,2000العدد:10182الطبعةالاولـيالأثنين 14 ,جمادى الاولى 1421

الثقافية

جغرافية الأرض في شعر المتنبي 2
أ,د, عبدالرحمن بن سعود بن ناصر الهواوي *
وقال أبو الطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها عبدالرحمن بن المبارك الأنطاكي:


وَبَقايا وَقارِهِ عافَتِ النَّا
سَ فَصَارَت رَكانَة في الجَبالَ

يقول العكبري في شرح هذا البيت: البقايا: جمع بقية, وعَفتُ الشيء: كرهته, والركانة الشدة والصلابة, وسمي الركن ركناً: لشدته ولإسناد الشيء إليه, والمعنى يقول: ما بقي من حلمه الذي أعطاه الله كَرِه الناس، فلم يحل بهم، فحل في الجبال فصار ركانة فيها وثبوتاً.
لقد أشار الشاعر في بيته هذا إلى صلابة وثبوت الجبال ورسوخها,
وقال الشاعر في قصيدة يرثي بها والدة سيف الدولة ومشيراً إلى ركانة الجبال:


أسَيفَ الدَّولة استَنجِد بَصَبرٍ
وكَيفَ بِمِثلِ صَبركَ للجِبالِ

يقول العكبري عن هذا البيت: استنجد: من النجدة، وهي الإعانة، أي استعن, والمعنى يقول: ياسيف الدولة استعن بالصبر، فأنت أهله، وأثبت من الجبال، فلا يوجد مثلك في رزانتك وركانتك للجبال.
وقال شاعرنا المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة.


تَدوُسُ بِكَ الخَيلُ الوُكوُرَ على الذُّرا
وَقَد كَثُرَت حَولَ الوُكُورِ المطاعِمُ

يقول العكبري في شرح هذا البيت: وكر الطائر: موضع مبيته, والجمع: وكور, والذرا: رؤوس الجبال, والمعنى: يريد: أنه يتبعهم (يتبع الروم) أي إذا أخذوا عليك درباً صعدت إليهم رؤوس الجبال، فيقتلهم هناك، فتكثر المطاعم حول الوكور, هذا كلام أبي الفتح، ونقله الواحدي, وقال غيره: تدوس بك الخيل في آثار الروم وكور الطير في رؤوس الجبال، وقُنن الأوعار، وقد كثرت الجثث من القتل حول الوكور، بكثرة من قتلته هنالك فرسانك، ومن أهلكه من الروم جيشك وغلمانك, وأشار بذلك إلى كثرة الجثث حول وكور الطير، مع انتزاح مواضعها، وامتناع أماكنها، الى ما كان الروم عليه من شدة الهرب، وما كان أصحاب سيف الدولة عليه من قوة الطلب، وأنهم قتلوهم في رؤوس الجبال، وأدركوهم في أبعد غايات الأوعار.
لقد أشار أبو الطيب في بيته هذا الى قمم الجبال العالية، وما يستوطنها من الطير, وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها بدر بن عمار:


سارٍ ولا قَفرَ في مَوَاكبه
كأَّنما كلُ سَبسَبٍ جَبَلُ

يقول العكبري عن هذا البيت: القفر، جمعه: قفار، وهي الأرض المقفرة من الناس.
والسبسب: المتسع المستوي من الأرض, والمعنى: يقول: قد عم القفار والأماكن الخالية بجيوشه، فلم يبق قفر ولا سبسب إلا ملأه فكأن السباسب جبال، وشبهه بالجبل لكثافة جيوشه، وارتفاعها بالأسلحة والرماح.
ورد في لسان العرب لابن منظور: السبست: المفازة, والسبسب: القفر والمفازة, والسبسب: الأرض القفر البعيدة, ابن شميل: السبسب الأرض القفر البعيدة، مستوية وغليظة وغير غليظة، لا ماء بها ولا أنيس, أبو عبيد: السباسب والبسابس القفار, وأحدها سبسب بسبس.
لقد ذكر أبو الطيب في بيته هذا القفر والسبسب من الأرض إضافة إلى الجبل, وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:


أخَذتَ عَلى الأعدَاءِ كلّ ثَنِيَّةٍ
من العَيش تُعطي من تشاء وتحرِمُ

يقول العكبري عن هذا البيت: الثنية: الجبل الصغير، وقيل: هي الطريق في رأس الجبل.
والمعنى: أخذت (يقصد سيف الدولة) على أعدائك كل طريق عيشهم فيها، فليس يعيشوا، لأنك فرقت بينهم وبين أرواحهم بالقتل، وأنت تعطي من تشاء وتحرم، لأنك ملك، يشير بذلك إلى قوة ملكه، وتمكن أمره، فأنت تعطي من أطاعك ورجاك، وتحرم من خالفك وعصاك، عالماً بما تفعله، قادرا على ما تقصده، فأنت مؤيد من الله.
ورد في لسان العرب لابن منظور: الثنية: الطريقة في الجبل كالنقب، وقيل: هي العقبة، وقيل: هي الجبل نفسه.
وقال أبو الطيب في قصيدة يعاتب بها سيف الدولة.


صَحِبتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ منفَرِداً
حتى تَعَجَّبَ مِنِّي القُورُ والأكَمُ

يقول العكبري عن هذا البيت: من روى القور بالراء وضم القاف، فهو جمع قارة، وهي الأكمة، وقيل هي حرة، وهي اللابة, وجمعها لوب, ومن روى بفتح القاف والزاي، فهو القوز، وهو الكثيب الصغير, وجمعه: أقواز وقيزان, والمعنى: يقول: قد سافرت وحدي، فلو كانت الجبال تتعجب من أحد، لتعجبت مني لكثرة ما تلقاني وحدي، فصحبت الوحش في الفلوات، منفردا بقطعها، مستأنساً بصحبة حيوانها، حتى تعجب مني سهلها وجبلها، وقوزها وأكمها.
ورد في لسان العرب لابن منظور: القور جمع القارة والقيران جمع القارة، وهي الأصاغر من الجبال، والأعاظم من الآكام، وهي متفرقة خشنة كثيرة الحجارة, والقوز من الرمل صغير مستدير, قال الأزهري: وسماعي من العرب في القَوزِ أنه الكثيب المشرف, والقوز (بالفتح): العالي من الرمل كأنه جبل، ومنه حديث أم زرع: زوجي لحم جمل غث، على رأس قوز وعث، أرادت شدة الصعود فيه لأن المشي في الرمل شاق فكيف الصعود فيه لاسيما وهو عث.
لقد أشار أبو الطيب في بيته هذا الى الفلوات وسهولها وجبالها، وأقوازها وآكامها، كما بين أن مواطن الوحش من الحيوان هي الفلوات البعيدة عن مواطن الإنس, وقال شاعرنا المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:


تَرمِي على شَفراتِ الباتِراتِ بِهِم
مَكامِنُ الأرضِ والغِيطانُ والأُكُمُ

يقول العكبري في شرح هذا البيت: الشفرات: جمع شفرة، وهي حد السيف, والباترات: القاطعات, ومكامن الأرض: الخفيات منها, والغيطان: جمع غائط، وهو المطمئن من الأرض, والمعنى: يقول: لقرب حينهم (يقصد الروم)، وحلول آجالهم، لم ينفعهم الهرب، حتى كأن مهاربهم من الغيطان والجبال، تلقيهم على حد السيوف.
لقد ذكر الشاعر في بيته هذا الانخفاضات والارتفاعات في سطح الأرض.
وقال الشاعر في قصيدة يهجو بها إسحاق بن كيغلغ:


أتانِي كلامُ الجاهَلِ ابن كَيَغلغ
يَجوبُ حُزُوناً بَينَنا وَسُهولا

يقول العكبري عن هذا البيت: الحزن: الأرض الصعبة الوعرة, والسهول: جمع سهل وهي الأرض الطيبة واللينة, ويجوب: يقطع الأرض, والمعنى: يقول: أتاني وعيده من مسافة بعيدة بيننا.
وقال أبو الطيب في قصيدة قالها على لسان بعض بني تنوخ:


أنا ابنُ الفَيافي، أنا ابنُ القَوَافي
أنا ابنُ السُّرُوجِ، أنا ابنُ الرّعانِ

يقول العكبري عن هذا البيت: الفيافي: جمع فيفاء، وهي الأرض الملساء, والفيف: المكان المستوي، وجمعه افياف وفيوف, والقوافي: جمع قافية الشعر، وهي آخر البيت، وربما قالوا للقصيدة: قافية, والرعان: جمع رعن، وهو أنف الجبل الذي يندر منه، ويقال له رعل باللام (أيضاً), والمعنى: يقول: أنا ابن هذه الأشياء، أي منسوب إليها، لأن الأرض البعيدة الصعبة، أنا أعاينها، وقد كثر قطعي لها، وكذلك الجبال لكثرة سلوكي فيها، فصرت أعرف بها، كما يعرف الرجل بأبيه.
ورد في لسان العرب لابن منظور: الرعن: الأنف العظيم من الجبل تراه متقدماً، وقيل: الرعن أنف يتقدم الجبل, والفيف والفيفاة: المفازة التي لا ماء فيها مع الاستواء والسعة.
والفيفاء: الصحراء الملساء، وهن الفيافي.
لقد أشار أبوالطيب في بيته هذا الى الصحراء الشاسعة التي لا ماء فيها، والى البروز الصخري المتقدم في الجبل.
وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها محمد بن عبدالله القاضي الأنطاكي:


وَمُدقِعيِنَ بِسُبرُوتٍ صَحِبتَهُمُ
عارِينَ من حُلَلٍ، كاسِينَ من درَنِ
خُرَّابِ باديةٍ، غَرثى بُطُونُهُمُ
مَكنُ الضّبابِ لهُم زَادٌ بلا ثَمَنِ

يقول العكبري في شرح البيت الأول: المدقع: الذي لا شيء له، فهو من دقع (بالكسر) إذا لصق بالتراب, والدقعاء: التراب, والدقع: سوء احتمال الفقر, والسبروت: الأرض التي لا نبت فيها، ومنه قيل للقبر: سبروت, والحلل: جمع حلة, والمعنى: ربّ قوم صعاليك يجلسون لفقرهم على التراب صحبتهم، عارين من الثياب، كاسين من الوسخ والقذر, ويقول العكبري عن البيت الآخر: خراب: جمع خارب، وهو الذي يسرق الإبل خاصة, وغرثى: جمع غرثان، وهو الجائع, ومكن: جمع مكنة، وهو بيض الضبّ, والمعنى: يقول: هؤلاء قوم يسرقون الإبل، وليس لهم طعام يأكلونه، فمن جوعهم يأكلون بيض الضباب، يأخذونه من الفلاة بلا ثمن.
ورد في لسان العرب لابن منظور: السُّبرُوت: الشيء القليل, والسبروت: المحتاج المقل، وقيل: الذي لا شيء له,, والسبروت: الأرض الصفصف، وفي الصحاح: الأرض القفر, والسبروت: القاع لا نبات فيه.
لقد ربط الشاعر في بيتيه السابقين بين نوعية محددة من تضاريس الأرض وبين ما يوجد فيها من حيوان ونبات، وتأقلم قاطنيها مع ما يوجد فيها من مأكل ومشرب.
وقال الشاعر في قصيدة قالها وقد بلغه أن قوماً نعوه في مجلس سيف الدولة:


فَغادَرَ الهَجرُ ما بَينيِ وَبينكمُ
يَهماءَ تَكذِبُ فَيها العَينُ والأذُنُ

يقول العكبري عن هذا البيت: اليهماء: الأرض التي لا يهتدى فيها، يقال: بَرّ أيهم, وفلاة يهماء, والمعنى: يدعو بالبعد بينهم وبينه بأرض لا يهتدي بها، تسمع الآذان فيها ما لا حقيقة له، وترى العين مالا حقيقة له، وسالك المفاوز والقفار تخيل لعينه الأشياء، ولسمعه الأصوات.
ورد في لسان العرب: اليهماء: الفلاة التي لا يهتدى بها للطريق، والبر أيهم, لقد أشار شاعرنا في بيته هذا الى بعض المناطق الأرضية الشاسعة الممتدة التي يتيه بها سالكها، ولا يعرف طريقه، ويتخيل له أشياء ليست بحقيقة.
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها عضد الدولة:


إذا طَلَبَت وَدَائِعَهُم ثِقاتٍ
دُفِعنَ إلى المحَاني وَالرّعان

يقول العكبري في شرح هذا البيت: المحاني: جمع محينة، وهي منعطف الوادي, والرعان جمع رعن، وهو أنف الجبل, والمعنى: يريد: أن ودائع التجار إذا تركوها في هذه الأماكن أمنوا عليها, ولم يخافوا أحداً عليها، وهو معنى غريب.
لقد ربط الشاعر في بيته هذا بين الأودية والجبال، والمعروف أن أغلب الأودية تبدأ من سفوح الجبال، وتمتد في طرق غير مستقيمة، ولهذا قال الشاعر المحاني.
يقول أبو الفتح (1411ه 1991م): إن التربة تغطي الجزء الأعلى من قشرة الأرض، وتختلف من مكان لآخر حسب العوامل الفيزيائية والكيميائية والإحيائية, ويتكون كل نوع من التربة من مجموعة معينة من المواد المعدنية، حسب نوع الصخور الموجودة أسفل التربة, وتوجد المواد المعدنية بشكل جيد في الحبيبات الدقيقة مثل الطين والطمي والرمل, ومكونات التربة ذات أحجام مختلفة.
ويقول عوض (1406ه 1986م): إن الرمل والحصى يتكونان من المعادن نفسها وهي مكونة أساساً من مركب الكوارتز بالاضافة الى بعض مكونات التربة الأخرى، مثل الفلسبار، والميكا أكسيد الحديد وغيرها.
ويقول أبو الفتح (1411ه 1991م) أيضا: إن لون التربة يدل على محتوياتها من المواد العضوية والمعدنية، فهناك تربة حمراء، وتربة صفراء، وتربة رمادية وتربة سوداء, وهذه الألوان ناتجة مما تحتويه التربة من معادن مختلفة, قال ابو الطيب في قصيدة يمدح بها ابن العميد:


حَشَت كلُّ أرضٍ تربةً في غُبارِهِ
فَهُنَّ عَلَيهِ كالطَّرائِقِ في البُردِ

يقول العكبري في شرح هذا البيت، المعنى: يقول: عسكره لكثرة ما تغزو تمر بأراض مختلفة، فإذا مر بأرض سوداء علاه غبار أسود، وإذا مر بأرض حمراء علاه غبار أحمر، فقد صارت عليه هذه الألوان كالطرائق في البرد، وهذا معنى حسن.
ورد في لسان العرب لابن منظور: البُردُ من الثياب، قال ابن سيدة: البُردُ ثوب فيه خطوط وخص بعضهم به الوشي.
لقد أشار شاعرنا الفذ في بيته هذا الى التربة، وأن هناك ألواناً مختلفة للتربة، وشبه ألوان التربة بالألوان التي قد توجد في البرد الثياب وقال الشاعر المتنبي في قصيدة يمدح بها بدر بن عمار:


إذَا وَطِئَت بِأيدِيها صُخُوراً
يَفئنَ لِوَطءِ أرجُلِها رِمالا

يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: روى الواحدي: يفين: بالفاء والياء المثناة تحتها ومعناه: يَعُدن ويرجعن, يقول: هذه الخيل (ذكرها الشاعر في أبيات سابقة لهذا البيت) إذا وطئت الصخور لشدة وطئها تصير رمالاً، وأراد: إذا وطئت بأيديها وأرجلها فدل المحذوف في آخر البيت على المحذوف في أوله.
نستشف من بيت شاعرنا هذا التعبير العلمي لتكون الرمال من الصخور، فالصخور عندما تتعرض لعوامل التجوية الكيميائية والميكانيكية تتفتت الى رواسب عدة منها الحصى، والرمل، والطين وغير ذلك.
وقال الشاعر في قصيدة وقد نظر إلى خلعة مُطوَاة:


مَتى أحصَيتُ فَضلَكَ في كَلام
فَقَد أحصَيتُ حَبَّاتِ الرّمالِ

يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يقول: فضائلك (فضائل الممدوح) لا تحصى، وإن قلت: إني أحصيها فكأني أقول: أنا أحصي الرمل، وهذا لا تقبله العقول، لأنه محال, لقد أشار أبوالطيب في بيته هذا الى الرمال ودقتها وصغرها وعددها اللانهائي.
وقال أبوالطيب في قصيدة يصف بها فرساً:


جاءَ إلى الغَربِ مَجِيءَ السَّابِقِ
يَترُكُ في حِجارَةِ الأَبارِقِ
آثارَ قَلعِ الحَلي في المَناطِقِ
مَشياً وَإن يَعُد فكالَخنادِقِ

يقول العكبري عن هذين البيتين: الأبارق: جمع أبرق، وهي آكام فيها حجارة وطين, والمناطق: جمع منطقة، وهي ما يشد بها الوسط, والمعنى: يقول: من شدة عدوه (الفرس) وقوة وثوبه، يؤثر في الصخر آثاراً كالآثار التي في سيور المنطقة من الحَلي إذا قلع منها, يقول: إذا مشى أثر بحافره في الصخر آثارا كآثار الحَلي إذا قلع، وإذا عدا أثر فيه مثل الخنادق، وهذا مبالغة.
لقد بين الشاعر في بيتيه السابقين الى ان الصخور قد تتفتت وتتحول الى حصى او رمل,, نتيجة لتعرضها الى قوة او ضغط معين، والمعروف أنه حتى الرياح والأمطار لها دورها في تفتيت الصخور ناهيك عما يقوم به الحيوان وخصوصا الضخم القوي منها في هذا الخصوص.
وقال شاعرنا المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:


إذَا اعتادَ الفتى خَوضَ المَنايا
فأهوَنَ ما يَمُرُّ بِهِ الوُحُولُ

يقول العكبري عن هذا البيت: المنايا: جمع مَنِيَّة، وهي من أسماء الموت, والوحول: جمع وحل، وهو ما يبقى في الأرض من سيل, والمعنى يقول: إذا تعود الإنسان أن يخوض غمرات الموت، فأهون ما يعانيه خوض الماء والطين، وهو يشير الى أن الوحل لا يمنعه من السفر, وهذا منقول من كلام الحكيم حيث يقول: نفوس الحيوان أغراض لحوادث الزمن.
لقد أشار الشاعر في بيته هذا الى الوحول، والوحل عبارة عن اختلاط الماء مع عناصر التربة وتفتيتها، فيتكون لدينا ما يسمى بالتربة الطينية.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها فاتكاً:


فَكُنتُ مُنبتَ رَوض الحَزن باكرة
غَيثٌ بِغير سِباخ الأرضِ هَطَّالُ

يقول العكبري في شرح هذا البيت: روض الحزن: هي الأرض البعيدة، وخصها لبعدها عن الغبار, وسِباخ الأرض التي لا تنبت لملوحتها، واحدها: سبخة, والمعنى: يقول: زكت عندي صنيعته، كما يزكو المطر الكثير في الأرض الطيبة, والمعنى: أن مطر جوده لا يصادف مني سبخة.
ورد في لسان العرب لابن منظور: السبخة: أرض ذات ملح ونَزّ، وجمعها سِباخٌ, والسبخة: الأرض المالحة, والسَّبَخُ: المكان يسبخ فَيُنبت الملح وتسوخ فيه الأقدام.
لقد أشار الشاعر في بيته هذا الى نوعين من التربة، التربة الخصبة المنبتة، والتربة المالحة التي لا تنبت مهما توفر لها الماء.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح كافوراً:


إذا نِلتُ مِنكَ الوُدَّ فالمَالُ هَيِّنٌ
وَكُلُّ الَّذِي فَوقَ التُّرَابِ تُرَابُ

يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يريد: إذا كان لي منك المحبة فالمال هين، ليس بشيء، المحبة الأصل، وكل ما على وجه الأرض فأصله منها، يعني من التراب، ويصير الى التراب.
نعتقد بأن بيت شاعر العربية الفذ هذا في الحقيقة، حقيقة علمية توجز كل ما قيل وقلناه عن التربة والجبال وتضاريس الأرض المتنوعة.
لقد تطرقنا سابقاً إلى الغلاف المائي للكرة الأرضية بصورة مختصرة, ويعد الماء من أعظم وأهم النعم التي خلقها الله سبحانه وتعالى على الأرض, ويغطي الماء أكثر من 70% من سطح الأرض، فالماء يملأ المحيطات والبحار والأنهار والبحيرات، كما يوجد في باطن الأرض وفي الهواء الذي يحيط بنا,وبدون وجود الماء فإنه لا وجود للحياة بأشكالها المختلفة.
ويتكون الماء من جسيمات صغيرة جداً تسمى بالجزيئات، فنقطة واحدة منه تحتوي على ملايين من هذه الجزيئات, ويحتوي كل جزيء من هذه الجزيئات على جسيمات متناهية الدقة تسمى الذرات, فجزيء الماء يتكون من ذرات الهيدروجين والأوكسجين، والتي تكون في حالتها المنفردة عبارة عن غازات، ولكن عندما تتحد ذرتان من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأوكسجين تعطينا المركب الكيميائي H20 الذي هو الماء, ويتميز الماء بأنه يمكن أن يوجد في حالة صلبة أو سائلة أو غازية, وهذه الميزة لا توجد في مادة أخرى خلال درجات الحرارة العادية للأرض والحالة التي يكون عليها الماء في أي من حالاته الثلاث يعتمد على سرعة تحرك جزيئاته, فالماء في حالته الصلبة تكون جزيئاته بعيدة عن بعضها البعض، وغالباً ما تكون عديمة الحركة, أما في حالته السائلة فالجزيئات تكون قريبة من بعضها البعض وتتحرك بحرية أكثر, أما في حالته الغازية فالجزيئات تتحرك بعنف وتصطدم ببعضها البعض.
ويوجد الماء على سطح الكرة الأرضية في نوعين، مياه مالحة، ومياه عذبة وتشكل المياه المالحة حوالي 97% من حجم الماء ككل، وهي مياه البحار والمحيطات أما بقية الماء وهي العذبة فتوجد في الجليد والأنهار الجليدية، والأنهار والبحيرات والمياه الجوفية.
قال ابو الطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها عضد الدولة:


1 وَأموَاهٌ يَصِلُّ بها حَصَاها
صَلِيلَ الحَلي في أيدِي الغَوَاني

يقول العكبري في شرح هذا البيت: صلّ: إذا صوّت, وصلصلة اللجام: صوته, والحلي ما يلبسه النساء من الذهب والفضة والجوهر, والغواني: جمع غانية، وهي المرأة التي غنيت بحسنها، وقيل بزوجها, والمعني: يقول: لها (شعب بوّان في فارس) مياه يصوت حصاها من تحتها، كصوت الحلي في أيدي الجواري.
وقال شاعرنا المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:


2 ومَا شَرَقي بالماء إلاَّ تذكُّراً
لماء بهِ أهلُ الحَبيب نزُولُ
3 يُحَرِّمُهُ لمعُ الأسِنَّة فَوقَهُ
َفلَيسَ لِظَمآنٍ إلَيهِ وُصُولُ

يقول العكبري عن البيت الثاني: الشرق الاختناق بالماء، أو بالريق (اللعاب) أو بالنفس, والمعني: يقول: وما أشرق بالماء إلا لعلمي أن أهل الحبيب الراحلين به، وقومه الحافظين له، يعتمدون ماء ينزلون به، ويستقرون بمنهل يَحُلونه، فيهيج لي الماء تذكر حلوله، وأغص به اسفاً على رحيله، لأني أذكر ذلك الماء الذي هم نزول به، فلا يسوغ لي الماء, ويقول العكبري عن البيت الثالث: المعني: يريد: وصف موضع من يحبه من الرفعة، وما هو بسبيله من العزّ والمنعة، فقال: يحرم هذا الماء الذي يرده لمعُ أسنة قومه المحتلين به، وامتناع جهتهم، واحتداد شوكتهم، فليس لظمآن وصول إليه، ولا لوارد طمع فيه، واشار بهذا إلى أن محبوبه ممنوع منه؛ على القرب والبعد، فلا يقدر على زيارته.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها سيف الدولة عند دخول رسول الروم:


4 وَمِن أيّ ماءٍ كان يَسقي جيادهُ
ولم تَصفُ مِن مزجِ الدماء المناهلُ

يقول العكبري في شرح هذا البيت: الجياد: جمع جواد, والمناهل: جمع مَنهَل, وهي المياه التي يكون فيها النَّهل، وهو أول الشرب, والمنازل التي تكون في المفاوز وفيها الماء تسمى مناهل، استعاره، يشير إلى قرب عهده (عهد سيف الدولة) بغزو الروم وسفك دمائهم، فقال: وعلى أيّ مياه في بلادهم كان ينزل، ومن أيها كان يسقى ويشرب، وهي بما سفكت من الدماء ممتزجة، وبما عممتها من ذلك جيفة متغيرة.
لقد اشار شاعرنا المتنبي في أبياته الأربعة السابقة، إلى الماء بصورة عامة، وإلى بعض أماكن وجوده ومصادره، وإلى صوت جريان الماء وملامسته لأجسام معينة إضافة إلى إشارته لفوائد الماء في الشرب، وتغير لونه عندما يمتزج مع مواد أخرى ملونة.
وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها علي بن إبراهيم التنوخي:


وَإنَّ المَاءَ يَجرِى مِن جمادٍ
وإنّ النَّار تَخرجُ مِن زِنادِ

يقول العكبري عن هذا البيت: الجماد: يريد الصخر، والزناد: هو الزَّند الذي يقدح به النار, والمعنى: يقول: إن العداوة كامنة في الفؤاد، كمون النار في الزناد، والماء في الجماد.
يقول لنا علم الجيولوجيا وعلم الجغرافيا إن مياه الأمطار وغيرها تتخلل مسامات القشرة الأرضية، وقد تحجر بين طبقات الصخور الأرضية، فإما أن تخرج إلى سطح الأرض على هيئة ينابيع، أو أن تُستخرج بطرق معينة، وعلى هذا الأساس لو رجعنا مرة أخرى إلى بيت شاعرنا السابق نجده يقول: وإن الماء يجري من جمادٍ، وهذه حقيقة علمية لاجدال فيها.
وقال الشاعر المتنبي في قصيدة يمدح بها بدر بن عمار ويذكر الأسد:


َورَدٌ إذا وَرَدَ البُحَيرَةَ شارِباً
وَرَدَ الفُرَاتَ زَئيرُهُ وَ النِّيلا

يقول العكبري في شرح هذا البيت: الورد: ذو اللون الذي يضرب إلى الحمرة، فكأن لون الأسد هذا يضرب إلى الحمرة, والبحيرة: بحيرة طبرية, والفرات: نهر الشام الذي يجري إلى العراق, والنيل: نيل مصر, والمعنى: يقول: هذا الأسد من شدّته وعظم زئيره، إذا ورد البحيرة شارباً، ورد، أي وصل صوته إلى الفرات وإلى النيل, وجانس بين ورد وورود.
لقد أشار أبوالطيب في بيته هذا إلى مياه الأنهار والبحيرات، وهي مياه عذبة موجودة فوق سطح الأرض جارية أو راكدة, ونلاحظ هنا أن شاعرنا ربط بين المياه العذبة بعضها ببعض.
وقال الشاعر في قصيدة يصف بها فرساً تأخر الكلأ عنه بوقوع الثلج:


1 ما لِلمُرُوُج الخُضر والحدائِقِ
يَشكوُ خَلاها كَثرَةَ العَوَائِقِ
2 أقامَ فِيها الثَّلجُ كالمُرَافِقِ
يَعقِدُ فَوقَ السِّنّ رِيقَ الباصِقِ
3 ثُمَّ مَضَى لا عادَ من مُفارِقِ
بِقائِدٍ مِن ذَوبهِ وَسائِقِ

يقول العكبري في شرح البيت الأول: المروج: جمع مَرج، وهو الذي يرسل فيه الدواب, والخلا: الكلأ (العشب) الرطب, والحدائق: جمع حديقة، وهي القطعة من النخل والزرع, والعوائق: جمع عائق، وهو ما يعوق عن النفاذ في الشيء, والمعنى:
يقول: نبت هذه المواضع يشكو الموانع من طلوعه، وهي ما يمنعه من الطلوع كالبرد والثلج، وهما اللذان يمنعان النبات من الظهور, ويقول العكبري عن البيت الثاني: المعنى: قد أقام في هذه المروج الثلج، كالمرافق لها، فلا يفارقها، ومن شدته أن الرجل إذا بصق جمد ريقه فوق أسنانه, ويقول العكبري عن البيت الثالث: المعنى يقول: إن الثلج يذيبه الحرّ، فكأن الذوب ساقه وقاده حتى ذهب، جعل أوائل الذوب قائداً، والآخر سائقاً.
لقد ربط الشاعر في أبياته الثلاثة السابقة بين البرودة وتكون الثلج، وبين ارتفاع درجة الحرارة وذوبان الثلج، إضافة إلى ربطه بين تكون الثلج وعدم ظهور العشب من الأرض من شدة البرودة، وهذه مسائل علمية معروفة لنا, والمعروف أن الثلج هو عبارة عن قطرات المطر تنزل على هيئة القطن المندوف الثلج من شدة برودة الجو.
وقال ابو الطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة ويذكر هجوم الشتاء الذي عاقه عن غزو خَرشَنَة:


أخوُ غَزَوَاتٍ ما تُغِبُّ سُيُوفُهُ
رقابُهُمُ إلاَّ وسَيحانَ جامدُِ

يقول العكبري في شرح هذا البيت: يقال: غَبّ، وأغبّ، وهو التأخير؛ يقال: غَبّ الزيارة: إذا أخرها يوما بعد يوم, وسيحان: بحر (نهر) يجيء من بلد الروم، وليس يريد سَيحون وجَيحون اللذين بخراسان, والمعنى: يقول: غزواته لاتفتر ولا تنقطع إلا عند جمود سيحان، هذا النهر الذي يجمد في الشتاء، فلا تفتر سيوفه عن رقابهم إلا وقت الشتاء، وقت جمود واديهم، وذلك أنه يقطعه عن غزوهم الشتاء.
لقد أشار الشاعر في بيته هذا إلى تجمد المياه العذبة وتحولها إلى كتلة صلبة من شدة البرودة, وتجمد الماء يختلف عن تكون الثلج منه لأن الثلج يكون على هيئة القطن المندوف، كما ذكرنا سابقاً, وقد ورد في لسان العرب لابن منظور: الثلج: الذي يسقط من السماء معروف, والجَمَد بالتحريك: الماء الجامد.
*كلية الملك خالد العسكرية بالرياض

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved