عرفنا شيئاً من سخرية الشاعر العباسي إسماعيل الحمدوني، بشاة سعيد، وذلك في مقالنا الماضي, وللشاعر أيضاً في هذه الشاة قوله:
جاد سعيد لي بشاةٍ
ذاتِ سقمٍ ودنَف
ناحلة الجسم، إذا
ما هي مرّت بالجيف
صاحت عليها: ها هنا
يا أختنا، ذاتَ العَجَف
تخنقها العَبرةُ إن
مرت بأصحاب العلَف
كم قد تَغَنَّى، ولهاً
شوق إليه ولهَف:
كم قد تقطّعتُ إلى
وجهك شوقاً وأسف
تستطيع ريشَة هذا الشاعر إحكام المشهد الساخر صورة وصوتا وحوارا وحركة، وانفعالات داخلية لدى الشاة، حتى لكأنها تشعر مثلنا وتحس فهي تحشرج بالبكاء، وهي تتقطّع أسى وحزناً، فكأن الشاعر إنما يقابل بين حياة غني وفقير، وسيد ومسود، وكأنما هو يوازن بين حياة صنفين من الناس، وهو يقول فيها أيضاً:
بشاة سعيدٍ وهي روح بلا جسم
تمثّلت الأمثالُ في شدة السُّقم
يقول لي الإخوان حين طبختُها:
أتطبخ شطرنجاً، عظاماً بلا لحم
فقلت: كلوا منها، فقالوا تهزُّؤاً:
أتطعمنا ناووس قومٍ من العُجم
فقلتُ لهم: كانت لديهم أسيرة
ترى القتَّ من شأوٍ بعيدٍ، وفي الحلمِ
وكم قد تغنّت إذ تطاول جوعُها
ولم تر عند القوم شيئاً من الطّعم:
ألا أيها الغضبان بالله ما جَرَى
إليك؟ فقد أبليتَ جلدي على عظمي
(الناووس: صندوق من خشب أو نحوه، يضع فيه النصارى جثة الميت، جمعه: نواويس .
في هذه الأبيات تبلغ علاقته بهذه الشاة ذروتها، فبعد أن استقبلها هدية عجفاء، وعايشها هزيلة سقيمة، ليس فيها سوى عظام في جلد، هو يقدم هنا على ذبحها، لقد تحققت نبوءته فيها، فهي كالناووس، لاشحم فيها ولا لحم، ظاهر النصوص يفضي بنا إلى سخرية الشاعر بشاة سعيد، وربما تجاوز بنا خطوة أخرى، فشمل بسخريته سعيداً نفسه، لأن الهدية إنما تكسب أهميتها وقيمتها من مُهديها، ألا تراهم يقولون: (الهدية على قدر مهديها)؟ فإذا تعمقنا النظر قليلاً، وجدنا أن في الإمكان فهم النص في إطار أوسع وأرحب، فهو يتفلت من إطاره الشخصي، لينداح في رحابة الإطار الاجتماعي، ليلقي الضوء على حياة اجتماعية عامة في عصر من العصور، وليكون شاهداً على جيل كامل من الناس، ونحن إذ نسمح لأنفسنا بهذا الفهم، لا نعمد إلى تحميل النص ما لا يطيق، بل نفتح أمامه المجال واسعاً، لإعطاء فيوض تزخر من الدلالات الممكنة، مما قد تفلح في القبض عليه، والولوج من خلاله إلى عالم الحمدوني الساخر.
وإذا كنا في شاة سعيد قد وقفنا أمام ظاهرة البخل، والتباين في الأقدار، فإننا نستطيع أن نلتقي في (شاة أشعب) مع ظاهرة أخرى، هي ظاهرة الطمع، التي هي في اعتقادي مترتبة على شيوع البخل وانتشار الفوارق اللافتة.
وأشعب شخصية معروفة ظهرت بالمدينة المنورة، من موالي عبدالله بن الزبير، تأدب وروى الحديث، وكان يجيد الغناء (الأعلام 1/332) وتوفي سنة 154ه بالمدينة، وهو إمام الطفيليين، وأولهم في التطفيل، قيل له ذات مرة ثمار القلوب ص 277 : هل رأيت أطمع منك؟ قال: نعم، شاة لي صعدت في السطح ، فنظرت إلى قوس قزح، فظنته حبل قتّ ، فقفزت إليه، فسقطت، فاندقت عنقها.
ومن ثم ضرب بها المثل في الطمع كما كان يضرب المثل بصاحبها وإلى هذا التمثيل أشار ابن الحجاج في قصيدته التي كتبها في زوجته حين سقطت من السطح وماتت، حيث قال:
عفا الله عنها، إنها يوم ودّعت
أجلُّ فقيد في التراب مغيَّب
ولو أنها اعتلت لكان مصابُها
أخف على قلب الحزين المعذّب
إلى أن قال بعد اتهامها بما لا يجوز:
فصارت حديثا شاع بين مصدق
يحققه علما، وبين مكذِّب
سوى الطمع المردي إليها بحتفها
ومن يمتثل أمر المطامع يَعطبِ
فأعظمَ يا هذا لك اللهُ ربُّها
وربك أجرَ التُّكل في شاة أشعب
* وفي صحراء الجزيرة العربية الواسعة عثر أحد الشعراء على (ذئب صغير) أهملته أمه، أو نفاه أبوه ولم يعترف بانتسابه إليه، فأشفق عليه وامتدت يده إليه لينقذه من الموت، وخلطه بشياهه وأرضعه منها، فلما كبر واشتدت قوائمه، بادر بالإساءة، وتحين غفلة من صاحبها وعدا عليها، وبقر بطن إحداهن، ثم لاذ بالفرار، فقال الشاعر يصف تلك الحادثة بكل حزن وأسى، ويلتمس منها العظة والعبرة مخاطبا ذلك الذئب:
بقرت شويهتي، وفجعت قلبي
وأنت لشاتنا ولدٌ ربيب
رضعت لبانها، وربيت فينا
فمن أنباك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع سوءا
فلا أدب يفيد، ولا أديب
وكم من ذئاب بشرية سلكت مثل هذا المسلك، فكان أول ما عضت اليد التي امتدت إليها بالمساعدة والعون، سواء بالمال أو في مجال الوظائف والأعمال، ولعمري إنها لنذالة قد يمسك عنها حتى الحيوان، فقد يعذر الذئب فيما فعله مع الشاة، لأنه تصرف من خلال طبعه وسجيته، وكان على صاحب الشياه أن يدرك ذلك، ويتصرف على أساسه، ولكن ما عذر الإنسان، والعقل يملي عليه أن يكون وفيا لمن أحسن إليه، بارَّاً بمن مدّ له يوما يد العون، فتعسا ومحقا لأولئك الخائنين الغادرين المتنكرين للجميل، المتمردين على المعروف,
وإلى لقاء مع شياه أبي القاسم الشابي.