| شرفات
عندما توفي بوشكين جاء ليرمنتوف شاعرا فذاً، وورث عن الشاعر الراحل امرين: امارة الشعر الروسي، ونفس الشقاء الانساني.
لقد هاجم اليرمنتوف موقف الموظفين الكبار من رحيل بوشكين حيث راحوا يتبادلون النكات عنه ويسخرون منه، فما كان من ليرمنتوف الذي يعتمل الاسى في جوانحه الا ان كال لهم الصاع صاعين، فأشاد بعظمة الشاعر الراحل ووصف مهاجميه بأنهم جمع جائع يضيق به البلاط الملكي، وعشاق فساد اخساء، خانقو الحرية والعبقرية والعظمة هذه الكلمات دوّت بها احدى قصائد ليرمنتوف الشهيرة، فاذا باحدى السيدات المسنات من ذوات الاهمية ترسل نسخة من هذه القصيدة الى الامبراطور قائلة: ها هنا دعوة الى الثورة ! ويغضب القيصر نيقولا في الحال ويأمر بالقبض على المؤلف الهدّام، الذي هو ميخائيل ليرمنتوف ضابط في الثالثة والعشرين من عمره، ومن فرسان الحرس الامبراطوري وتكون النتيجة انزال رتبته وارساله الى احدى كتائب المشاة في الخط الامامي في القوقاز، حيث كان الروس ما يزالون يشنون الحرب على القبائل من سكانه غير المسالمين, وعندما رحل ليرمنتوف الى هناك كان اسمه قد اصبح معروفا في العالم الادبي, وهكذا فقد كان نفيه بداية حياته كشاعر,, تلك الحياة القصيرة والرائعة في آنٍ.
عاشها يتيما مع ابيه الضابط الطائش الفقير ومع جدته لأمه حيث توفيت الام وهو في الثالثة من عمره وكانت الجدة لا تحتمل أباه الكابتن لير نتوف وتكاد لا تسمح له برؤية ابنه الصغير, هذا الفتى الصغير الذي نضج مبكرا حالما وعنيدا مركزا في ذاته ومندفعا، ومنذ ان اخذته الجدة الى عين ماء معدنية في جبال القوقاز وهو مسحور بالطبيعة مأخوذ في عالم الموسيقى والشعر وقصائد بوشكين وقصص البطولة عن نابليون، وعن الحرية, وعندما كان في الخامسة عشرة كتب بعض القصائد الشعرية ومن اهمها قصيدة الملاك التي يحفظها كل اطفال روسيا عن ظهر قلب، فمن ملامح عبقريته الفذة ان سمات شعره وملامحه كفنان وخصائص اسلوبه تكونت ونضجت في الصبا، فلم يكن يبلغ السابعة عشرة من عمره حتى ابدع ما يزيد عن ثلاثمائة قصيدة غنائية وخمس عشرة قصيدة طويلة وثلاث مسرحيات ورواية قصيرة رغم حياته شديدة التعقيد ورغم انفعالاته العنيفة تجاه المواقف المختلفة.
لقد كان طيب القلب خجولا، وان كانت تشوب طيبة قلبه نوبات كثيرة من القسوة، وأحيانا يميل الى المنطق البارد كالثلج، ويخفي مشاعره خلف قناع من التهكم والسخرية والحذر، اذ انه يعاني احساسا بالنقص ونوبات يأس شديد، مما كان سببا في توحده النفسي مع الشاعر الاشهر لورد بيرون، حيث بدا له ان روح عدم المواءمة والكبرياء الشيطاني والتمرد تربط بينهما فراح يحاكي اشعار بيرون ويتقمص حالته النفسية، ثم فجأة يتمرد على ذلك ايضا في احدى قصائده.
لا , انا لست بيرون،
أنا أختلف عنه، وكذلك مصيري غير المعروف،
وأنا مثله شارد مضطهد ولكن لي روحاً روسية .
ولا شك ان الشقاء في الحب زاد من حساسية شخصية ليرمنتوف المتناقضة، وان كان هناك خلاف حول شخصية المحبوبة، فقيل إنها ناديزدا ايفانوفا ابنة احد الكتاب المسرحيين، وقيل انها النبيلة فارنكا لوبيكينا التي ألهمته اغانيه عن الحب غير المتبادل, والمؤسف حقا ان كلتا المرأتين تزوجتا في بداية الثلاثينيات من ذاك القرن ليعيش الشاعر حالة من الصحو المؤلم وتبرد اوهام الحب,, ليعيش رغبة في الثأر من النساء، كل النساء، لأن امرأة تركته جريح القلب وحيدا على قارعة الطريق، فمارس علاقات غرامية عديدة تعتمد على لعبة اغواء مستمرة، وما ان يتم اللعبة حتى يزهد في ضحيته ويفقد اهتمامه بها, تعطش غريب على التسلّط على امرأة ما، تقطعه فجأة نوبة رقة او نوبة خمول وكسل.
وأثناء عمله كضابط في الحرس الامبراطوري في سان بطرسبورج كان مشهورا بأنه مؤجج للفتن,, مشهورا بأنه دون جوان رغم قبحه, آنذاك كان يقضي ليرمنتوف الاماسي ينسيح القصائد من النوع الذي يستطيب لرفاقه في السلاح, ولم ينصلح الحال إلا بعد رحيل بوشكين، اذ انفعل ليرمنتوف بالرحيل المفاجىء وبسخرية القصر، فشن حملة شعواء على المسئولين ادت لاعتقاله ونفيه قرابة عامين.
ليخرج ليرمنتوف بعد صدور العفو عنه عام 1839م ويستأنف حياته في سان بطرسبورج، هذه المرة ليس فقط كضابط فارس شاب ينشد المخاطر، بل ايضا كشاعر وضحية للاضطهاد السياسي.
لقد اصبح اكثر جدة,.
اكثر قدرة على الابداع وكأنه يحمل عن صنوه الراحل بوشكين تاج امارة الشعر وهو لا يدري! كما كان قادرا على اذابة الافكار والمواقف في سير ذاتية واعترافات غنائية وحالة من الرومانسية البيرونية التي تتجاذبها المتناقضات، فأبدع الحفل التنكري والمترهب وغيرها من الاشعار التي تفيض بالمرارة والغضب.
وفي عام 1840م كتب لير منتوف روايته الشهيرة بطل من هذا الزمان وضمن نصف حياته الذاتية في تلك الرواية من خلال البطل بتشورين الذي هو ضابط شاب عنيد وذكي ولا يعرف كيف يصرف القوى الهائلة التي يحسها في نفسه، وبما انه محروم من كل نشاط هادىء ومفيد في دولة نيقولا الاول البوليسية الاستبدادية، فيما عدا الانخراط في الجيش، فهو يضيع طاقته في التظاهر بالشجاعة وفي مغامرة لا طائل وراءها، اذ يحطم النساء اللائي يحببنه، لينتابه في النهاية اشمئزاز تام من نفسه، ومن العالم بأسره، وكأن ليرفتون يصمم على معالجة البطل الرومانسي على انه حالة مرضية فعلية!!
أليس البطل بتشورين هو ليرمنتوف نفسه؟! ليرمنتوف الذي تشاجر مع ابن السفير الفرنسي في روسيا على سيّدة جميلة ثم تحداه الى المبارزة، ووصلت الحادثة الى علم الامبراطور فألقى القبض عليه ونفاه مرة اخرى الى القوقاز,, ليرمنتوف الذي اهان دوقة من الدوقات ليعلن عن معاداته الصريحة للقصر, ليرمنتوف الذي كان القيصر الروسي نيقولا يكرهه كراهية شخصية.
فأي مصير اسود ينتظر شاعر كهذا؟! وكانت الاجابة في يوليو عام 1841م، اذ تنازع مع صديقه وليس احد اعدائه مارتينوف، حيث كان الاثنان يتوددان الى نفس الفتاة؛ وقتل في المبارزة بحد السيف كما قتل من قبل بوشكين العظيم بحد السيف, كأن قدر روسيا ان يموت اعظم شاعرين بها بحد السيف وبسبب امرأة ما,,, !!
شريف صالح
|
|
|
|
|