| مقـالات
في المقالة السابقة ألقيت بعض الضوء على ظاهرة قديمة/جديدة/مستجدة ألا وهي ظاهرة التفحيط، وذكرت كذلك عملية التفحيط - شئنا أم أبينا- عملية يتم (توارثها)جيلا بعد جيل، بل وذات شعبية شبابية هائلة مما يجلعها تبدو وكأنها حكرا على مجتمعنا، قياسا بالمجتمعات الأخرى القريبة أو البعيدة (منا وعنا) جغرافيا وثقافيا.
هذا وفي نهاية المقالة تساءلت (علميا) عن كنه الأسباب التي تؤدي الى اصرار هؤلاء الشباب على التفحيط حتى (الموت!),,, هنا أجيب وأقول:
درجت العرب الأوائل - وكما تفيد كتب التراث - على توسم نبوغ الأبناء (الأشقياء)، فها هو أحد الأعراب يخبرنا عن (معيار) استشراف نبوغ الغلمان لديهم بالقول: إذا كانت فيه لوثة فلسنا نشك في سؤدده ، وهذا اعرابي آخر يرى في (الأشدق الأحمق!) من الغلمان دلائل نبوغ وتفوق بالمستقبل, وعليه، هل يتوافر في ثقافتنا المعاصرة اي دليل من شأنه ولو حتى الإيحاء بأننا نحسن التعامل مع (لوثة وحمق) مراهقينا فالمبادرة في توجيه طاقاتهم (وما أكثرها!) التوجيه السليم؟ هل لدينا اي تفسير عقلاني لظاهرة استمرار (لوثة وحمق) الغالبية من شبابنا والمؤدية ليس الى قتل نبوغهم المؤمل فحسب، بل والى الموت الحقيقي تهورا وعبثا وتفحيطا؟
ماذا ينقص هؤلاء الشباب؟ ألم توفر لهم حكومتنا الرشيدة -أيدها الله- كل شيء من أمن وغذاء ورعاية طبية وتعليم,,,؟ إذن ما سر لجوئهم الى التفحيط الى حد الموت؟ هل أن السبب يعود مثلا الى عوامل أساسية(مهمشة؟!)، أو هل يا ترى انه فشل في آليات التربية ووسائلها,,؟
في الحقيقة إن تفحيطهم وإلقائهم بأنفسهم الى التهلكة عن عمد وسابق إصرار لا يعتبر فشلا في التربية بقدر ما هو نقص في آليات ووسائل التربية التي من ضمنها نقص وسائل الترفيه الشبابية, فمن المعلوم ان مشكلة التفحيط قد نشأت اول ما نشأت كنتيجة مباشرة لانعدام وسائل الترفيه الاجتماعية التي أرى انها لا تزال (منعدمة)حتى هذه النقطة الزمنية في وقتنا الحاضر, (نعم!) ليس هناك من وسائل ترفيه شبابية في وقتنا هذا حيث ان ما انبثق حديثا من مفاهيم جديدة (للترفيه) ليست سوى مفاهيم مستوردة انشئت تجاريا لغرض (شفط!) ما تحتويه جيوب هؤلاء الشباب, بصيغة أخرى: إننا باسم تشجيع استثمار القطاع الخاص قد (خصصنا) برامج الترفيه الشبابية من حيث ندري ولا ندري، إننا لم نجرد برامج الترفيه من (سجيتها الطبيعية) فحسب، بل وحورنا مفهوم الترفيه من كونه وسيلة اجتماعية الى غاية فردية غايتها الإشباع المادي للمستثمر(الخاص!)، مما أدى بالتالي الى خسارة الشباب ماديا، فمعاناتهم نفسيا، فاقتصار الترفيه للقادر عليه، فالتفحيط ومشتقاته (وغيرهما!) لغير القادر! حدث كل هذا في الوقت الذي شهد فيه مجتمعنا (جوعا الى حد الاعياء!!) من جراء ظاهرة (انقراض) أماكن الترفيه الطبيعية كالبراحة مثلا، التي لا شك في انها قد لعبت أدوارا رائعة في ترفيه وتسلية الأجيال السابقة رغم أنف الأتربة وبدائية (عظيم ساري والغميضة,,,!) السؤال هنا إذن ، ما هو البديل,,؟ ماذا لدينا لهؤلاء الشباب لكي نحتويهم فنشغلهم عن أنفسهم الأمارة بالسوء ؟! كيف نستطيع امتصاص صخبهم ونستنفد (طاقاتهم) الزائدة تجنبا لآفات وتبعات الملل فالكلل فالعمى؟.
حسنا، يقولون (علميا) ان هناك سبلاً ايجابية لاحتواء ما قد ينجم من جراء فراغ الشباب من تبعات نفسية وسلوكية, ومن ضمن هذه السبل ما يعرف بالتوجه التعبيري Expressive Orientation الذي يعتمد على النشاطات الترفيهية التي من شأنها منح الفرد فرصة المشاركة الوجدانية عن طريق (التنفيس) كالضحك والبكاء والصراخ والتصفيق والهتاف ,,, وغيرها من تعبيرات (تنفيسية) تنتج عن تفاعل هذا الفرد (الوجداني) مع هواياته كالمباريات الرياضية والحفلات والنشاطات المسرحية,,الخ، مما يمكن هذا الفرد من التعبير عما يجول في خاطره من خلال اعطائه الفرصة (المتحكّم بها) لاطلاق عنان عواطفه (المحتقنة!) إن صح التعبير! ماذا يحدث عندما تنعدم قنوات (التعبير الفضفاضي!) المذكور آنفا؟:,,, (يقولون!) انه يحدث العكس، ألا وهو ما يسمى بالتوجه الفعال: Active Orientation وكما يتمثل بالتفحيط، والتهور، والطيش، وتشويه الجدران بالكتابة عليها، والتقليد غير المألوف، و(زرع!) الشوارع جيئة وذهابا، وحتى مضايقة العوائل ومرتادي الأسواق، وكل ما من شأنه تعويض (الزهق!) وتراكماته,,.
,,, بكل صراحة، نحن بأمس الحاجة الى صياغة (عصرية) لمفهوم الترفيه (الموجه) بعيدا عن أسوار رأسمالية القطاع الخاص وأسعاره المسعورة، بل وأهدافه الضيقة, إنها صياغة يجب ان تنبثق من المجتمع لصالح المجتمع,,من الطبيعة,,من البساطة ,,من القلب,, وأولا وأخيرا من خصوصيتنا العصرية للمحافظة على أصالة خصوصيتنا!
الهوامش:
Brown,Roger {1965}.Social Psychology.New York. Free Press.P.736
للتواصل: ص ب 4206 رمز 11491 الرياض
|
|
|
|
|