| مقـالات
* حضرت قبل أيام قليلة مضت مناسبة رسمية كبيرة، أقامتها احدى الادارات، في حضور حاشد كبير من رؤسائها ومديريها وموظفيها، وقلبت نظري في هذه الحشود الغفيرة، فلم أر من بينها مديرها السابق,,! ولا مديرها الأسبق,,! ولم أر أحداً من كبار موظفيها الذين كانوا بالأمس ملء العين والنظر,,! من أولئك الذين تقاعدوا، أو تركوا مقاعدهم الوظيفية لزملاء لهم كانوا من مرؤوسيهم ذات يوم، فكان هذا الجمع على كثرته قليلا عندي بدون الآخرين الذين كانوا هنا بالامس، حتى تمثلت بقول الشاعر:
وما أكثر الإخوان حين تعدهم
ولكنهم في النائبات قليل
* هؤلاء الزملاء المرؤوسون الذين (ورثوا مقاعد من سبقهم)، كانوا لا ينادون رؤساءهم أو يخاطبونهم إلا بألفاظ التفخيم والتعظيم والتبجيل,, فالرئيس أو المدير السابق، كان هو صاحب المعالي، وصاحب السعادة والسيادة، والأخ العزيز، الفاضل، المحترم، المبجل، الموقر، الافخم,,! إلى آخر المعزوفة إياها التي لا يجهلها أحد، والتي تتحول بعد استحالة الاستفادة من هذا الشخص إلى: (المدير السابق، والمذكور الذي كان مديراً لنا، والرئيس الأسبق,,) هكذا مجرداً من كل الألقاب والتبجيلات التي كنا نصبها على رأسه رضي بذلك أم لم يرض,,! ولولا بقية من حياء لعلها تبقى معنا لسبقنا الموت إلى المدير السابق، فنعتناه عند ذكره: بالمرحوم السابق الذي كان مديراً لهذه المصلحة,,,!
* بعد هذه الحفلة الحاشدة لتلك الادارة الكبيرة بيومين، قابلت مديراً سابقاً لها في السوق، وكان يتبضع، فإذا هو يتألم ويتوجع، ويشكو الجحود والنكران من قبل زملاء وصحبة كان يضنهم من الأحباب؛ فإذا هم قد غيبوه ونسوه، حتى في مناسبة جميلة كهذه,, تماماً مثل ما فعلوا مع من سبقه ومن كان معه من الذين تركوا العمل، واختاروا حياة التقاعد,, هذا إذا كان للتقاعد في بلادنا حياة ومعنى,,؟ وكأني بهذا المدير السابق يردد قول الشاعر العربي:
ذهب الذين إذا رأوني مقبلاً بشوا إلي ورحبوا بالمقبل وبقيت في خلف كأن حديثهم ولغ الكلاب تهارشت في المنزل |
* والحقيقة,, أن ما فعلته وتفعله هذه الإدارة مع رؤسائها وموظفيها السابقين، ليس بدعاً منها، وإنما هي ظاهرة عامة في معظم الادارات والمصالح، وفي ميدان العلاقات الوظيفية، التي تنفصم عراها متى انتفت المصلحة بين هؤلاء وهؤلاء، بين موظفين على رأس العمل، وآخرين,, أو آخر ترك موقعه لجهة اخرى، أو لداره مختاراً التقاعد، ثم ما يلبث ان ينزوي ويعتزل، ليس حباً في العزلة والانزواء، ولكنه اضطرار المكره الذي يشعر أن الأصدقاء والزملاء والأحبة قد انصرفوا عنه، إلى درجة النسيان التام، أو التناسي المتعمد، الذي يبرز بوقاحة حتى في المكاتبات الرسمية، التي تشير إلى من كان علماً مشهوراً، بالمذكور أعلاه,,! والمذكور الذي كان مديراً سابقاً,,! وصدق الشاعر:
عز الوفاء فلا وفاء وإنه لأعز وجداناً من الكبريت |
* كان هذا,, يوم كان الكبريت عزيز الوجود,,! أما وقد توفر الكبريت في هذا العصر، فإن الوفاء هو الأعز وجداناً,,!
* ماذا على هؤلاء وهؤلاء، لو وفوا مع مديريهم ورؤسائهم وزملائهم السابقين لهم خبرة وخدمة، فخصصوا في مكاتبهم سجلات وفاء، تشتمل على اسماء وهواتف وعناوين اولئك الذين تركوا العمل والخدمة في هذا الجهاز، ليتم من بعد، تفقدهم من آن لآخر، بدعوتهم لحضور مناسبة رسمية او اجتماعية، ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم، والتواصل معهم ببطاقة معايدة على بريدهم في يوم عيد سعيد,,؟!
* إن في هذا الانفصام العجيب والغريب، دلالة على جحود تام، ونكران لمعروف، وتنكر وعدم وفاء، وهذه ليست من اخلاق العرب والمسلمين، ولا من شيمهم التي تميزوا بها بين الأمم, أليس هذا شاعرهم (علي بن الجهم)، الذي يقول في هذا المعنى:
وجربنا وجرب أولونا فلا شيء أعز من الوفاء |
* إن المدير، أو المسؤول، أو الموظف الذي يتنكر لمن سبقه، أو لمن كان له فضل عليه، جاحد قليل الحياء، لا يملك ثقة في النفس تؤهله للعمل، فكيف يوثق به إذن,,؟! ومن أمراضه، الشعور بالنقص، وفوق ذلك، فهو يجسد قمة التخلف والجهل في المجتمع الذي نفترض فيه التمدن والتحضر, وواحد مثل هذا، يجني على امة بحالها، ويوصم مجتمعاً كاملاً بالجهل والتخلف, قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه:
وليس كثيراً ألف خل وصاحب وإن عدواً واحداً لكثير |
* والإمام علي رضي الله عنه هو القائل أيضاً، وكأنه يندب الوفاء بين الناس:
ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب فالناس بين مخاتل وموارب يغشون عينهم المودة والصفا وقلوبهم محشوة بعقارب |
* إن الذين يفرحون بما هم فيه من نعيم ووجاهة وتمكين من سلطة، فينغمسون في هذا النعيم، ،ينشغلون بهذه الفرحة، متناسين حقوق الله وحقوق العباد عليهم، غافلين أو متغافلين عن مصيرهم بعد حين، فلا يجدون من الوقت ما يكفي لكي يتذكروا، ان ما لحق السابقين سوف يلحق بهم عاجلاً أو آجلاً، فإنه، سوف يكون منهم لا محالة ذلك (الانسان),, (المذكور),, الذي كان ذات يوم مديراً أو رئيساً سابقاً,,! وسوف يأتي اليوم الذي فيه يلقون من المعاملة، مثل ما قدموه للسلف, ولكن من يتعظ:
يا معرضاً عني بوجه مدبر ووجوه دنياه عليه مقبلة هل بعد حالك هذه من حالة أو غاية إلا انحطاط المنزلة |
|
|
|
|
|