كان الشعر العربي ولا يزال مرآة تجارب الشاعر وخلاصة آرائه وأفكاره في المجتمع والحياة، فلا غرو إذا جاء شعره حافلاً بألوان الحكمة ومشبعاً بفيض من المشاعر الصادقة الصريحة، وبالطبع فإن الشعراء يختلفون في الاصالة والعمق والنضوج وهذا يرجع إلى عوامل مختلفة ليس هذا مجال عرضها وتفصيلها وإنما الذي ننشده ونهدف إليه في هذه العجالة هو القول بأن الشعر لم يكن مقصورا على شعراء اللغة العربية الفصيحة بل كان للشعراء الشعبيين نصيب وافر منه.
وهذا يؤكد لنا أن الشعر موهبة فطرية تكون عند شعراء اللغة العربية الفصيحة واللغة العربية العامية لأن كلاً من هؤلاء الشعراء رغب في تصوير مشاعره وأحاسيسه وعرض آرائه وأفكاره وتجاربه بالاسلوب الذي يجيده ويرتاح إليه.
وقصة الحياة وفصولها تمر على كل واحد من هؤلاء الشعراء ولكن كما قلت يختلف تصوير كل فئة منهم لها بالاسلوب فقط دون الجوهر وأعني به المعنى,, ولما كان الشعر العربي الفصيح غني عن التعريف بجزالته وسمو أفكاره فانني في هذا المقال سوف أعرض بشيء من الايجاز للنوع الثاني من الشعر وهو الشعر الشعبي أو الشعر النبطي كما يطلق عليه أحياناً وقد وجدت مثالاً صادقاً لهذا النوع من الشعر وذلك في كتاب صدر في الآونة الأخيرة بطبعته الخامسة بعنوانشعراء من الرس من تأليف الأستاذ/ فهد المنيع الرشيد وأرجو أن أوفق في اعطاء نبذة مختصره عن قيمة هذا الكتاب وآتي على اعطاء فكرة عن موضوعه مستمداً من الله العون والتوفيق.
الكتاب وموضوعه:
الكتاب يتعرض بشيء من التفصيل لشعراء جزء عزيز من بلادنا هو منطقة الرس فيأتي على تصوير حياتهم وترجمتها بدقة وإيجاز ويعطي مختصراً مفيداً من انتاجهم وهو ما يكون غالباً مصوراً لآلامهم وآمالهم ومعبراً عن تجاربهم في الحياة، والشعراء الذين تعرض لهم الكتاب يبلغ عددهم أربعون شاعراً وشاعرة وهؤلاء هم مشاهير شعراء هذه المنطقة وليس كلهم في مجال الشعر النبطي والكتاب في أكثر من اربعمائة صفحة وفيه مقدمة ضافية عن أهمية الشعر النبطي وتاريخه ودوره في الحياة الأدبية للأمم والشعوب كما يحتوي أيضاً على تعريف شامل بمدينة الرس وتصوير تاريخها قديماً وحديثاً وقد بذل المؤلف جهداً يشكر عليه ويستحق من أجله تقدير كل مواطن حريص على رفع معنوية بلادنا الأدبية وإحياء تراثها والعناية به وياحبذا لو أن كل شاب مثقف في كل جزء من بلادنا العزيزة حذا حذوه وأعطى فكرة شاملة عن الحياة الأدبية أيا كان مستواها في الجزء الذي يعيش فيه هذا والله أرجو أن يأخذ بيد الجميع إلى خدمة الوطن ورفعة شأنه في كل ما يحق له المجد والسؤدد في جميع مجالات الحياة.
الشعراء:
قلت سابقاً إن الكتاب يضم مختارات من إنتاج أربعين شاعراً وشاعرة من شعراء هذا الجزء العزيز من بلادنا وهؤلاء الشعراء منهم القدامى ومنهم المحدثون ومنهم الشباب ومنهم الشيوخ، وأكثرهم كما فهمت من تراجمهم قد انتقلوا إلى رحمة الله، ولولا أن قيض الله لهم هذا الشاب المثقف فترجم حياتهم ونشر نتاجهم لذهبوا دون أن نعرف عنهم شيئاً ودون أن نحفل بإنتاجهم ونبقيه ذخيرة حية شاهدة على مقدار ما بذلوه من جهد، لا سيما وأن معظم شعرهم حافل بألوان الحكمة، زاخر بآيات البطولة والنخوة العربية الأصيلة، وهؤلاء الشعراء يتفاوتون من حيث قوة الانتاج ، ويتفاوتون أيضاً من حيث المعاني التي تطرقوا إليها في شعرهم, ومن هنا نأتي على استعراض إنتاج بعض هؤلاء الشعراء، ولنبدأ بالشاعر سرور الأطرش.
وهو أحد الذين عرفوا بخصوبة الشعر وغزارة الإنتاج وقد اختار المؤلف من أشعاره باقة لا بأس بها منها قوله:
مدري علام اللي جميل خياله
يصد عني يوم بالسوق أوافيه
متولع به يوم عصر الجهاله
واليوم هذا الشيب بانت مواريه
ترى العشير إلى نوى بالفساله
تراه ما تصطى عيوني تراعيه
حتى لساني ما يرد النباله
والقلب عن تبع المقفين ناهيه
ياتابع المقفى عسى العوق فاله
خله على دربه والاقدار ترميه
تصير عنده مثل نوع الجماله
لاعاد مابك اسم خير تجازيه
ومن الشاعر سرور عودة الأطرش ننتقل إلى شاعر آخر من كبار الشعراء في هذا الكتاب الا وهو الشاعر سليمان الشائع الفتال وهذا الشاعر على الرغم من أن تفاصيل حياته لا تزال غير بارزة كغيره من شعراء المنطقة فشعره على كل لسان ويحفظه الكثيرون وذلك لعذوبته ورقته وجزالته أيضاً وقد اشتهر بالشعر الحماسي مما جعله مدعاة فخر واعتزاز لسكان هذه المنطقة حتى وقتنا الحاضر ولكي لا أطيل عليك عزيزي القارئ دعنا نعيش لحظات ممتعة مع هذه الانشودة الفريدة التي يخاطب بها الشاعر بني وطنه ويستحثهم على النخوة والشجاعة والاستجابة لدواعي الواجب, والأنشودة أو القصيدة قيلت في الزمن القديم عن حماية المستجير كما يقوله المؤلف, وما أحرانا أن نتذكر هذه القصيدة وأمثالها في وقت نادى فيه عاهلنا المفدى ورائدنا الباني إلى الجهاد المقدس وتحرير المسجد الأقصى من ربقة الصهيونية البغيضة والقصيدة هي كالتالي:
يالله اليوم ياجالي الهموم
يابالافراج يامنشي الغمام
ارحم اللي قزاء مافيه نوم
وحارب الزاد مع حلو الطعام
ياهل الحزم ديرتكم تلوم
تشكي الضيم منكم والملام
تبكي اللي يجلون الهموم
راحت أذكارهم شرق وشام
قال سلطان كثرن العلوم
كيف أبا أصير ياربع الحشام
قالوا اثبت ترى حقك لزوم
نثني الملح دونك والجهام
من زبنا رقاء روس الرجوم
ما تجيه البيارق والخيام
نجني الملح من روس الحزوم
معتبينه لحزات الزحام
عند فيحان في روس الحزوم
مثل حس الرعد تشغي العظام
في يدينا فرنجي وروم
ذخر الأجداد ذاله كم عام
كان ما نحتمي من كل قوم
حرم ما ها علينا والطعام
طالب الحق نعطيه اللزوم
ومن بغى العق حناله كعام
وبعد هذه القصيدة الحماسية الرائعة التي نشم منها أريج البطولة ونلمس فيها عبارات النخوة والرجولة بعدها نأتي على ذكر قصيدة غزلية رقيقة شفافة للشاعر نفسه وهي حافلة بالصور والاخيلة والوصف وهي توضح ماللشاعر من قدم راسخة في الشعر العاطفي الجيد والقصيدة تقول.
جرى الدمع من عيني على الخد وانتثر
وبيح كنيني ياهلي دمعي الجاري
أحب الخضر من حيث لي صاحب خضر
وأباهي بزينه جملة البيض واماري
أبولبه عفراء كما دارة القمر
إلى شعشعت يسري على نورها الساري
نطحني ضحى العيد بمشجر خضر
يجره بردفه جرة الحصن للقاري
سقى الله محبوب سقاني من الثغر
قراطيع من ريقه ولا احد عنه داري
ولما كان المجال لا يتسع لاعطاء صورة بارزة ودراسة كاملة لكل شاعر على حدة، فإنني أكتفي بهذه اللمحة الموجزة عن هذا الشاعر الجيد الإنتاج إلى شاعر آخر من شعراء الكتاب والتقي بالشاعر ابن قرناس أحد أفراد عشيرة القرناس المعروفة بالرس والمشهورة بالكرم والاباء والتي كان منها رجال خدموا الرس خدمات عظيمة وكان منهم القضاة والأمراء والشاعر الذي نحن بصدد الحديث عنه شاعر مقل وتطغى على شعره الصبغة العاطفية وقد اختار المؤلف الكريم نخبة لابأس بها من شعره أخذت منها هذه القصيدة.
يانور عيني صابني منك جاريح
والجرح ما يبريه غير الصدوقي
مني مساك الخير ياطيب الريح
الله يصبحكم بحسن الوفوقي
أهلا هلابك عد رمل الصحاصيح
أو ماهتف وبل يسقي العروقي
ترحيب مني بالخشوم المراويح
وأن شاف بالقبلة رفيف البروقي
ان كان مثلي يالمودة فان اريح
وان كان جافيني فهو بارسوقي
عساك ما تجفان يابو تفافيح
يابو ردوف مثل شط الفروقي
يابو قرون عقبن المطاويح
كاسيه مثل مر جمات العذوقي
ومن الشاعر ابن قرناس نأتي إلى الشاعر عبدالله الحرير أحد الشعراء المجيدين والذين يحفل شعرهم دائماً بالحكمة والرأي الصائب، مما جعل الكثيرين يتمثلون بشعره في كثير من المناسبات ومن قصائده التي تثبت مصداق كلامنا هذا هذه القصيدة التي ينصح فيها عن معاشرة رجال السوء واختيار الاصدقاء الأوفياء وفيها يقول:
أنت إلى منك جهلت فلا تسال
انتظر للمرء هو والجليس
مايجلس مع الرجال الا الرجال
ولا يجلس مع الخسيس الا الخسيس
وانت لا تأمن مقاعيد الرزال
كود إنك تأمن الأفعى النديس
والدنس يعديك لو هو عقب حال
عقب منتب طاهر تنكس وطيس
إلى هنا أكتفي بهذا القدر من الذكر لهؤلاء الشعراء وفيما تبقى سوف أعطى لمحات موجزة وآراء مختصرة عن بعض الشعراء الباقين والذين يقف على رأسهم شاعران كبيران هما محمدبن ريس وقصة وفائه مشهورة ومذكورة في الكتاب الذي نحن بصدد دراسته والشاعر الثاني إبراهيم الخربوش وهذا الشاعر غزير الإنتاج ومعروف بغيرته وحبه لوطنه طيب الله ثراه وأسكنه واسع جناته كما أن لشعراء الشباب نصيب وافر من هذا الكتاب وشعرهم لا يقل أهمية عمن سبقهم ولكنهم لا زالوا في أول سلم الحياة وسوف يكون لهم مع مستقبل الايام مكانة مرموقة تضاف إلى مكانتهم الطيبة في الوقت الحاضر ومن هؤلاء الشعراء الشاعر صالح الريس وهو شاعر طموح وصريح وشعره جزل وعميق ورقيق أيضاً وقد أعجبتني صراحته في معالجة المشاكل التي تحيط به وبأسرته وكذلك حرصه على توحيد كلمة أبناء وطنه الرس وحثهم على ترك الاختلاف فيما بينهم وهذا لاشك من واجبات الشاعر والكاتب أيضاً فيجب أن يعيش مع مجتمعه ولا يعيش لنفسه فقط أكثر الله من أمثاله هذا وقد أعجبتني قصيدته في أهالي الرس والتي يحثهم فيها على التعاون ونبذ الاختلاف وقد جاء فيها: