| الاخيــرة
قال شيخي وهو يحدثني فجر ذات يوم: ياولدي، اني أحبك ، والمحب العارف، لا يكذب من يُحب، واني باذلٌ لك من معرفتي ما يوفقني الله إليه.
ياولدي لا خيل عندي أعطيك إياها، ولا مال، واني صادقك القول، وتصدُقني ، مع قولي، حالي التي تعرفها، وخبري الذي توقنه، فاسمع وأنصت، وتيقن، ثم ان شاء الله لك أن تعلم، وتعرف بعد ان تسمع، فذلك يكون من توفيق الله لك، ومن تكريم الله لي.
ياولدي: إني سائلك سؤالاً فأجب.
قلت: أسمع,, وأجيب
قال: الله يعلم ويقدر, علمه مُطلق، وقُدرته مطلقة.
قلت: نعم.
قال: هل تعلم شيئاً حرَّمه الله على نفسه، بمشيئته وقدرته المطلقتين، اللامتناهيتين؟
قلت: اسمع منك يا شيخي، فأعلم، وأعرف.
قال: حرّم الله الظُلم على نفسه.
قلت: نعم.
يا ولد: أعلم انه إذا وقع الظلم وانتشى الظالم، وقُهر.
قال: وجعله بين عباده مُحرما.
قلت: نعم
قال: وقد قال رسوله المصطفى: الظُلم ظُلمات يوم القيامة.
قلت: نعم,, سمعت ذلك.
قال: إني ناصحك: إذ خُيّرت بين أن تكون ظالماً قادراً أو مظلوماً، عاجزاً مقهوراً: فاذهب الى فراشك مظلوماً، ولا تذهب إليه ظالماً.
قلت: يا شيخي: إنما العاجز من لا يستبد، وانه ذا عاهة من لا يظلم.
قال: يا ولدي: إنما تعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وانتم عن كثير من أسرارها، غافلون.
يا ولدي: قامت السماوات والأرض على الحق، وبالحق، وللحق, تعلمون، من علومكم البحتة ان ذلك شأن الكون، وقوانينه، في عالم الأشياء الماثلة أمامكم، الخاضعة لملاحظاتكم، المنُفصلة عنكم، ولكنكم تجهلونها، في عالم نفوسكم وشؤونكم وترتيباتكم، وتنظيماتكم، وتظنون ظن السَّوء، وظن الجهل، بأن التنظيم الدقيق والقوانين الحاسمة، قد غفلت شؤونكم وعلاقاتكم.
يا ولدي اسمع مني: ان العدل، والميزان، قائمةٌ عليهما أمور الكون كلها، لا تفلت من ذلك ذرّة ولا مجرّة ولا أخضر، ولا يابس، كلٌّ في كتاب، لا تنفد منه صغيرة ولا كبيرة، ولكن أكثر الناس، لا يعلمون.
يا ولدي : اعلم: انه إذا وقع الظلم وانتشى الظالم، وقُهر المظلوم، تخلخل نظام الكون، وارتبك، واختل الأمر واضطرب وانزعجت الكائنات وتململت، ونادت بلسان حالها، وخاطبت خالقها وبارئها: اللهم قد نُكث العهد وحُنث القسم وسرى في نظام الكون الذي خلقته إثمٌ وبهتان عظيم, اللهم: فانتصر لكونك، وناموسك، وما حرّمت على نفسك وأعلنت أنه على عبادك محرم.
قال: وتسري يا ولدي في أوصال الكون ، ناساً وأشياء، ذبذباتٌ وأصداء تأخذ وقتها وزمانها وتُسافر مسافاتها، ومشاويرها، ثم تعود في المكان والزمان المناسبين لتقضي أمراً كان مفعولاً، ومقضياً ومحسوماً.
يا ولدي: أنين المظلوم، المقهور في جوف الليل صوت تستجيب له العناصر فإياك ان تنام ظالماً، تأتمر عليك قوى الكون الجبارة بأمر خالقها العظيم وتسعى بالإرادة المقدسة للاقتصاص منك ولو بعد حين.
يا ولدي: إني ناصحك وصادقك والله شاهدي والكون مُصدِّقي، والتاريخ دليلي.
أحمد الله إليك وأقول: الويل لمن هتك الأستار، ومزّق النواميس وأزعج الأكوان.
أنور عبدالمجيد الجبرتي
|
|
|
|
|