| الثقافية
* القاهرة/ مكتب الجزيرة - شريف صالح:
يسير عبدالخالق الركابي على عكازين ويخط الحرف بيد مرتعشة بعض الشيء، غير أن طاقة الصدق تتدفق من كتاباته التي تجمع بين عبق الماضي وألق اللحظة,, إنه أحد الأصوات الهامة في الرواية اليوم,, حيث ينتمي الركابي أدبياً إلى جيل الستينيات، وقد قدم لقرائه عددا من الروايات وبمذاق تراثي مختلف تبدأ الكتابة، وينفتح عالمه الروائي,.
حاولت الجزيرة من خلال هذا الحوار أن تقترب من هذا العالم، وأن تقرأ معه من دفتر أحوال الرواية العربية:
التاريخ نبع الإبداع
* يُلاحظ القارىء لمعظم أعمالك الروائية أن هناك انصرافاً إلى فترات تاريخية، هل يعني ذلك الابتعاد عن الراهن خشية الاحراج والتأويل المخالف أم أن هناك تفسيراً آخر؟
ما من أمر يقتل الرواية وهي أكثر الفنون الابداعية التصاقاً بالطابع السسيولوجي قدر انطوائها على الزيف والكذب والتلفيق، وهي أمور يلجأ إليها أنصاف الموهوبين بحجة أن تلك هي الوسيلة الوحيدة لكي ترى رواياتهم النور، من دون أن تخامرهم فكرة أنهم أجهضوا رواياتهم تلك ومسخوها، لحظة اتخاذهم ذلك القرار, وبذلك أداروا ظهورهم لشرط الابداع الرئيسي: الصدق الذي من دونه لن تقوم لرواية ما قائمة.
وثمة سوء فهم رافق تشخيص جانب من رواياتي، يتعلق بانصرافي إلى فترات تاريخية مما يوحي بأن رواياتي ذات منحى تاريخي، وهذا أمر يخالف الواقع، فالفترة التي انطلقت منها أحداث رواياتي لا تتخطى مفتتح القرن العشرين صعودا إلى زمنا المعاصر، قد تتخل ذلك ارتدادات إلى فترات أبعد وصولا إلى تسليط الضوء أكثر على الواقع المعاش، فهي إذن ليست تاريخية مقطوعة عن واقعنا المعاصر، بل هي عقود من الزمن ما تزال تتجذر من ضمائرنا.
* هناك في روايتك الأخيرة توظيف للتراث برهافة وعمق فإلى أي مدى استفدت من هذا التراث؟
لن يتسع الحديث للكلام عن الحقول المعرفية التي انطلقت منها في كتابة تلك الرواية, وقد نشرت مجلة فصول القاهرية دراسة هامة حول تلك الرواية، ربما تصلح مدخلا بالغ الأهمية في تذوق النص, وقد عنيت في هذا النص بالتراث في جانبه الجمالي ذي الطابع العربي والإسلامي.
وفي المقابل لا مفر من الاعتراف بأن للحداثة سطوة ليس من اليسير على المبدع الإفلات منها، شريطة ألا تتحول إلى تقليعة تستقطب الاهتمام بفعل العدوى.
سلطة الحداثة على النص
* وماذا لو أصبحت الحداثة سلطة مهيمنة على النص، كما نرى عند بعض الكتاب؟
الحداثة تمثل إيقاع العصر واتباعها لا يعني الوقوع تحت هيمنتها كما هو حاصل في قصيدة النثر مثلا واستثمار واقعية أمريكا اللاتينية السحرية لا يعني أن ندع شخصياتنا الروائية تطير من صفحة إلى أخرى شأن (ريمديوس) الجميلة التي استعانت بملاحق كانت تنشرها في يوم عاصف,, لتطير من إحدى صفحات رواية مائة عام من العزلة لماركيز,.
بل الأهم أن ننتبه إلى فلكلورنا الخاص ببلداننا بما ينطوي عليه من تلقائية وسحر, على وفق هذا الفهم أحرص على ملاحقة آخر ما يستجد في حقل السرديات متخذا منه سبيلا إلى فهم تراثنا العربي والإسلامي الذي به وحده يميزني الآخر ,, فثمة كنوز بكر كامنة في طيات كتب الجاحظ والتوحيدي والطبري وكتب الأسفار والرحلات وحكايات الشطار والعيارين,, يكفى المرء أن يستكنه أسرار كل هذا بعين معاصرة ليخرج بنصوص تنطوي على كل عجيب مدهش, وذلك كان منطلقي ولا سيما في رواياتي الأخيرة: النبش في التراث بأكثر الأساليب السردية حداثة.
المؤسسة والمبدع وجائزة نوبل
* لكن,, بعض الكتاب يرتدي معطف الحداثة بحثاً عن العالمية أو التطلع إلى جائزة نوبل مثلاً,,,؟
أعتقد أن هذا طريق مظلم الأفق بدليل نجيب محفوظ نفسه,, فرواياته إلى الآن هي الأقدر على أن تعرفنا على خصوصيتنا العربية، وهي التي تحمل لنا نكهة واقعنا المحلي,, فالمقاهي والأزقة والأسواق والشوارع والبيوت التي مررنا بها في ثلاثية نجيب محفوظ مثلاً لا تختلف كثيراً عن مثيلاتها في بغداد أو أية مدينة عربية عريقة.
وبالنسبة للحصول على جائزة مثل نوبل فأظن أنه أمر لا يحدث بسهولة,, إذ هناك قائمة ترشح للفوز أظنها تضم سبعة أسماء يتم اختيار الفائز للجائز من تلك الأسماء، وهناك مؤسسات تعكف ليس على طبع وترجمة أعمال ذلك الكاتب المرشح بل إنها تعمل على الترويج له بمختلف الوسائل والسبل, ولا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن هذه الجائزة لم تنصف العديد من كبار المبدعين: فقد منحت أول مرة عام 1901م إلى أديب فرنسي مغمور، في حين كان تشيخوف حياً يرزق، إذ إنه مات عام 1904م، كما أنها لم تمنح للعملاق تولستوي الذي مات عام 1910م,, وهناك قائمة طويلة تضم بورخيس وجويس وفرجينيا وولف وبروست وإبسن وغيرهم.
* وماذا عن الكتّاب الغرب؟
يبقى حظ الكتاب العرب المؤهلين للترشيح لنيل هذه الجائزة مرهونا بسطوة المؤسسات التي تتبنى إبداعهم, وأظن أن الجائزة الحقيقية لأي مبدع حقيقي: أن يصل برواياته إلى اكثر عدد ممكن من القراء العرب.
* باعتبارك تنتمي إلى جيل الستينيات في العراق كيف تكونت أبجديتك الثقافية ومن هم أبناء هذا الجيل الذين اطلعت على أعمالهم؟
لا شك أن الإنسان يستقي أجديته الثقافية من مصادر متعددة سواء من ظروفه الحياتية أو بيئته أو مكتبته,, فمنذ الطفولة تأثرت بمجلات ميكي وسمير من مصر كذلك اعتقد أن نجيب محفوظ يمثل الجامعة التي تخرجت منها روائيا,, وهناك أسماء هامة، في جيل الستينيات مثل صنع الله إبراهيم وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان,, ومن السعودية غازي القصيبي والمشري,, وأسماء أخرى لا تستطيع الذاكرة أن تحصرها.
استنساخ الكتاب
* في ظل هذه الظروف التي يعانيها العراق,, كيف ترى دفتر أحوال المبدع والأديب العراقي؟
* ما من كلمات في وسعها أن تجسد هول ما نعانيه من إبادة جماعية منظمة، ضحيتها اثنان وعشرون مليون عراقي يموتون آلاف المرات مجازياً,, ومما يبعث على القشعريرة أن هذه الإبادة تتم تحت أضواء كاميرات التلفاز والأقمار الصناعية والقنوات الفضائية,, ويبقى المثقفون والمبدعون أكثر الناس عرضة للاختناق والفناء، لكون أقلامهم ما عادت قادرة على اسعافهم في محنتهم، فقد مات منهم من مات، فضلاً عن موتى آخرين على لائحة الانتظار, هذا على مستوى الواقع اليومي,, أما على المستوى الثقافي فيكفي أنه ومنذ سنوات تحولت الكتب الجديدة التي تصدر في الأقطار العربية إلى ما يشبه المنشور السري, ما يكاد يتسرب كتاب عبر الحدود حتى تتلقفه الأيدي لتستنسخ عنه نسخا متعددة، فأصبح للكتب المستنسخة ركن هام في المكتبة في حين بيعت الكتب القديمة نظير لقمة الخبز.
* ما تتحدث عنه، بجانب ما يشبه الإعاقة على المستوى الشخصي، يفرض سؤالاً ملحاً,, ماذا تعني الكتابة بالنسبة لك؟
هناك أعباء ومسؤولية أخشى ألا تنهض بها كتفاي الواهنتان,, وليس من اليسير أن أخرج من عزلة مكتبي الصغير، حيث تضيق الجدران بي وبكتبي وبأحلامي,, وأبقى وحيداً أسلب روحي على الورق على شكل شخصيات اطمح إلى أن تنبض بالحياة,, وكلما تصفحت ما أكتبه استحضر مقولة العماد الاصفهاني: إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قُدّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.
|
|
|
|
|