|
| مقـالات
الشياه: وكذلك: الشاء، جمع مفرده: شاة قال في المعجم الوسيط: الشاة هي الواحدة من الضأن والمعز والظباء والبقر والنعام، وحمر الوحش، تقال للذكر والأنثى، وذكر لسان العرب بالاضافة الى ما تقدم دلالتها ايضا على المرأة عن طريق الكناية، وذلك كقول الأعشى:
فرميتُ غفلة عينه عن شاته فأصبتُ حبة قلبها وطحالها |
قال: والشاوي هو صاحب الشاء، قال الشاعر:
ولستُ بشاويٍّ عليه دمامة إذا ما غدا يغدو بقوس وأسهم |
ومع كل ما تقدم فإن الناس فيما نعلم لا يكادون يطلقونها الا على الضأن كما ان كلمة (غنم) تطلق في اللغة والشرع على الماعز والضأن معا، بينما يخص العُرف الحجازي في مكة والمدينة ويقصرها على الماعز فقط.
وادعى الشاعر المخضرم: أمية بني أبي الصلت قديما أنه يفهم لغة الشياه، ويستطيع تفسير المراد من ثغائها، قد يشترك معه الراعي المتمكن من عمله في فهم مراد شياهه او بعض مرادها، ولكن ليس الى هذه الدرجة التي رواها ابو الفرج الاصفهاني عن أمية بن ابي الصلت قال (الأغاني 4/128) كان امية جالسا ومعه قوم، فمرت بهم غنم، فثغت منها شاة (الثُغاء: صوتها) فقال للقوم: هل تدرون ما قالت الشاة قالوا: لا، قال: إنها قالت لسخلتها: مُري، لا يجيء الذئب فيأكلك كما أكل اختك عام اول في هذا الموضع، فقام بعض القوم الى الراعي وسألوه: ألهذه الشاة التي ثغت سخلة! قال: نعم هذه سخلتها, قالوا؟ اكان لها عام اول سخلة؟ قال: نعم، واكلها الذئب في هذا الموضع).
والقصة قد تكون ضربا من الخيال، وضعها بعضهم للدلالة على شفافية شاعر من (ثقيف) لإرضاء بعض مراكز القوى في الدولة الأموية، وربما يكون امية قد أوتي شيئا من منطق الشياه لكثرة خبرته بها، وقد تكون القصة محبوكة ومعدّة مسبقاً للإيهام بأن امية يعلم الغيب وبخاصة انه كان يهيىء نفسه لاستقبال النبوة, وكيفما كان الامر فهذه الشاة محظوظة بدخولها حياة احد المشاهير من الشعراء المخضرمين.
ونذكر هذه الواقعة بواقعة اخرى مشابهة مع شاعر آخر هو حسان بن ثابت، ولكن هذه المرة ليست مع شاة وإنما مع فاختة (هي واحدة الفواخت، وهي كل حمامة مطوقة، سميت بذلك لأن لونها يشبه الفخت، وهو ضوء القمر), كان حسان مضطجعا (الأغاني 4/157) مسندا رجليه الى فارع (اسم أُطم أي حصن، وكان هذا الاطم لبني النجار قوم حسان) وقد رفعهما عليه، اذ قال لجلسائه مَه، أما رأيتم ما مرّ بكم الساعة؟ قالوا لا والله، وما هو فقال حسان: فاختة مرت الساعة بيني وبين فارع فصد متين قالوا: وما هي قال:
ستأتيكمُ غدوا أحاديثُ جمةٌ فأصغُوا لها آذانكم، وتسمعوا |
قال مالك بن عمرو (راوي القصة) فصَبَحَنا من الغد حديثُ صفيّن.
ربما كانت تحكم مفاصل هذه القصة المصادفة، وربما كانت من باب الشعور من على بعد، وربما هي من باب الإحساس بالاحداث وتوقعات المتابعين لمجريات الأمور، كل تلك الاحتمالات قائمة لكنها ليس من الضروري أن تلغي اصل القصة.
ومن الشياه الشهيرة شاة سعيد (ثمار القلوب ص 375 377) وسبب شهرتها كثرة ما كتب فيها الحمدوني من اشعار، وتسييره الملح في وصف هزالها حتى غدت مثلا في ذلك، فيقال: أهزل من شاة سعيد، ولكنني لم أر الشاة ولا اكلت من لحمها، كما أنني لم اعرف شيئا عن صاحبها سعيد، وإنما عرفت عن الحمدوني الشاعر, فهو: اسماعيل بن ابراهيم بن حمدويه، وفي الاعلام (1/307): الحمدوي، نسبة الى جدِّه هذا، وفي زهر الآداب للحصري (2/1046 تحقيق البجاوي ط 2) الحمدوني، والخطب سهل, تردد هذا الشاعر بين البصرة وبغداد، وعُرف في شعره بالسخرية، وله هجاء في الجاحظ والمبرّد، توفي سنة (260ه) واشتهر بشعره الساخر الذي كتبه في شاة سعيد وطيلسان ابن حرب (سبق لي ان كتبت بالجزيرة عن الطيلسان عدة حلقات فاحمدوا الله حتى لا اغثكم هنا بالكتابة عنه).
ومما قاله في شاة سعيد:
ما ارى ان ذبحتُ شاةَ سعيدِ حاصلا في يديّ غير الإهابِ ليس الا عظامها، لو تراها قلت: هذي أدارن في جرابِ كم تغنت بحرقة ونحيب! لم تذق غير سفِّ محض التراب رب لا صبر لي على ذا العذاب بليت مهجتي، وأودى شبابي! |
(الأدارن: جمع ادرن وهو الثوب المتسخ) فهي لهزالها لم يعد منها غير جلدها، ولا لحم فيها، اما عظامها فهي لينة متهالكة مسودّة من شدة الهزال، فمنظر عظامها في جلدها كمنظر الادارن في الكيس، وهذه بلاشك قدرة عجيبة يمتلكها الحمدوني في رسم هذه الصورة، ونقل هذا المشهد المتهالك للشاة ثم يجعلها تغني، ولكن ليس غناء الفرح والطرب، بل هو غناء الالم والعذاب، فهي تجأر الى ربها بالدعاء لينقذها مما هي فيه من جوع.
وفي مقطوعة اخرى يقول:
صاح بي ابن سعيد من وراء الحجرات قرب الناس الاضاحي وأنا قربت شاتي شاة سوء من جلود وعظام نخرات كلما اضجعتها للذبح |
قالت: بحياتي
فابن سعيد مستعجل لا ينتظر ان يستقبل باب الحمدوني ليخبره خبر شاته، بل هو يكلمه من وراء الحجرات، او هو فعل ذلك لكونه أعرابيا لا يعرف سبيل الزيارة والاستئذان في الحواضر, إن سعيدا او ابن سعيد يألم لعدم وجود ما يقربه في العيد، لأن شاته غير صالحة للأضحية، وهي تتألم مثله من الهزال والجوع، فكلما اضجعها للذبح توسلت اليه بحياتها ان يتركها وشأنها، ويبحث عن شاة اخرى تصلح للذبح، ما اشد ان يصرخ المذبوح بين يدي الذابح، فلا يهتم بصراخه ولا يصغي اليه! والى لقاء آخر مع بعض الشياه!
د, محمد العيد الخطراوي
|
|
|
|
|
