| شرفات
عماد غزالي واحد من شعراء جيل الثمانينات ، وهذه تسمية إجرائية تطلق على الجيل الذي جاء بعد جيل السبعينيات وطرح رؤيته للشعر على المستويين: النظري والإبداعي، وعماد بدأ تجربته الشعرية بكتابة قصيدة التفعيلة التي تحافظ على الإيقاع الشعري المتوارث أو الأوزان الخليلية وفي مرحلة أخرى كتب قصيدة النثر لكن حنينه الدائم للغنائية يعود به إلى قصيدة التفعيلة، وفي شعر عماد غزالي احساس دافق بالحياة، وحزن شفيف يعكس صورة الشعرية التي تعبر برقة بالغة وبقسوة أحيانا عن تناقضات وهموم حياتنا المعاصرة على المستوى الاجتماعي والوطني والإنساني، وعماد غزالي من مواليد 1962م، ويعمل مهندسا وصدر له حتى الآن ثلاث مجموعات شعرية وحصل على جائزة سعاد الصباح عام 1990م.
كما حصل على جائزة أفضل ديوان شعر من هيئة قصور الثقافة عام 1993م، واخيرا حصل على جائزة أحمد بهاء الدين وهي عبارة عن منحة للتفرغ لكتابة بحث عن شجرة الشعر المصري في القرن العشرين, التقينا عماد غزالي وحاورناه.
* كيف بدأت تجربتك الابداعية وكيف تطورت في ارتباطها بتجربة الحياة؟
بدأت تجربتي من خلال انجذابي المبكر للقراءة، وكنت اعبر عن ذاتي في ذلك الوقت بالرسم,, وظلت علاقتي بالخطوط والألوان مستمرة بعد ذلك من خلال اهتمامي بفنون الخط العربي,, وعندما بدأت أخط خواطري الأولى اكتشفت بدون وعي كامل أن الكتابة هي طريقي، جمعت كل لوحاتي الطفولية واهديتها لمعلمة الرسم التي كانت تشجعني، وبدءا من المرحلة الثانوية كنت أقضي معظم أوقاتي خارج المدرسة في إحدى المكتبات العامة,, كانت قراءتي الأولى مثل الكثيرين تركز على الكتابات الدينية أو التي تجمع بين الدين والفكر وكتب التاريخ والمعرفة العامة والروايات الرومانسية العربية والمترجمة والشعر العربي في مرحلته الرومانسية أيضا، كانت الطاقة الهائلة المصاحبة لمرحلة المراهقة تصب كلها في القراءة النهمة وكتابة الخواطر الشعرية وأظن أن الأسئلة الكبرى التي تتفجر في الذهن في تلك المرحلة عن معنى الحياة وجدواها والعلاقة بين الذات والذات العليا وحجم التناقضات الاجتماعية في الواقع,, كانت كل تلك الأسئلة هي التي تحركني للبحث عن اجاباتها عبر القراءة ثم الكتابة,, كنت معتقدا في ذلك الوقت أن ما يعتمل بداخلي هواية يمكن أن تستمر أو لا,, وأنني يجب أن أواصل حياتي العملية والعلمية في مجال عملي دون إشكالية ما وهكذا التحقت بكلية الهندسة رغم ارتباطي القوي بعالم الأدب.
* بمن تأثرت من اسلافك الشعراء وما هي بالتحديد التجارب التي شدتك أكثر من غيرها ولماذا؟
في كل مرحلة من مراحل الكتابة مررت بها تغير أسلافي الشعراء,, فإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل في البداية ثم اكتشفت امرأ القيس، عمر بن أبي ربيعة، بشار بن برد، عمر بن الفارض، البهاء زهير، صفي الدين الحلي,, باختصار غصت في بحار التراث الشعري المترامية,, واهتممت بعروض الشعر، ثم أهداني أحد الأصدقاء مأساة الحلاج لصلاح عبدالصبور، فكانت بوابة عبدالصبور محطة كبيرة مهمة في مسيرتي، ثم أبو سنة وفتحي سعيد ودرويش فالماغوط فأدونيس، فسعدى يوسف وتجربة الشعر السبعيني في مصر بتنوعاتها الكثيرة,, ومن ذلك شعرت أن التراث الشعري كله عريبا وغربيا هو تراثي الشخصي ويهمني أن أذكر تأثري بكبار شعراء الصوفية العطار والشيرازي وجلال الدين الرومي وبالشاعر الهندي العظيم طاغور وهذا اللون من الشعر لا أشعر مطلقا أنه مترجم, كما أحب شعر جاك بريفير الفرنسي ورامبو والإنجليزي بتدهيوز وبيسوا واليوناني وكافاني وريتوس ودريرك والكوت وقد ترجمت لوالكوت وهيوز وبعض الشعراء الإيرلنديين الكبار مثل جورج ماكبت والشباب مثل الان موراوبيا,, أما أكثر الأصوات التي تأثرت بها في مرحلة ما فهي: صلاح عبدالصبور ودرويش وعفيفي مطر والشعر الفارسي، ولا استطيع تقليل هذا التأثر سوى بالتلاقي الذي حدث داخلي بين انجاز هذه الأصوات والطموح الفني الذي يعتمل داخلي.
* وماذا عن منابع ثقافتك ومرجعياتك ,, ؟
القرآن الكريم هو مرجعنا الأول جميعا بلا شك,, هو ذروة الاكتمال اللغوي والروحي والبياني، لكن الطريقة التي تنفعل بها نفس المبدع وتنصهر وتتشكل مع اللغة القرآنية تختلف من مبدع لآخر، تبعا لمدار حياته ثقافيا واجتماعيا ووجدانيا, اللغة القرآنية معطاءة بلا حدود,, ومدى الاجتهاد لا يعد في امكانات التعامل معها,, وهناك التراث الشعري العريض والتاريخ العربي القديم والحديث وهناك المعرفة الحديثة بتنوعاتها علميا وفلسفيا وأدبيا وتكنولوجيا لا تنس أنني مهندس وعملت سنوات في مجال الحاسب الآلي أنا منشغل بشكل عام بوضعية الإنسان العربي في العالم المعاصر، ومنشغل بصدام الذات مع مفردات الواقع المحيط وبانعكسات الايقاع الجنوني لحركة الحياة على النفس المبدعة الباحثة عن المعنى والتحقق.
* أنت تراوح قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر,, ما الذي يدفعك لكتابة هذا النمط أو ذاك؟
كثيرا ما أسأل نفسي هذا السؤال، خاصة بعد أن كتبت عددا من قصائد النثر منذ عام 1993م، وتمثل هذه القصائد: (قبيل اختفاء النجوم الجنازة لغة البعيد قربي دم ثان كل تلك الخطايا) معظم الجزء الأول من ديواني فضاءات أخرى للطائر الضليل الصادر العام الماضي عن هيئة الكتاب ثم كتبت بعد ذلك في العامين الآخرين قصائد: يمر في سلام اللعب مع الزمن والكتابة اثنان وثلاثون عاما وغيرها وهي قصائد نثر أيضا,, ومن ثم وجدت نفسي أكتب منذ فترة قريبة قصيدة تفعيلية بلا رفيق يعبر المساء وبها اهتمام خاص بالتقفية وان كنت قد وظفت فيها خبرتي بالعروض في التنويع الداخلي السلس من تفعيلات مختلفة لبحور الرمل والرجز والكامل فعدت أسأل نفسي,, لماذا كل هذا الاهتمام بالتشكيل الموسيقي بعد سنوات من كتابة النثر,, اعترف أن انتاجي في النثر لم يزل محدودا إلى اعتقادي أن قصيدة التفعيلة لم تمت ولم تستنفد امكاناتها بعد، وأمامنا ابداعات محمود درويش وسعدي يوسف وأدونيس وآخرين,, كما أن قصيدة النثر تقدم ذوقا خاصا وأدوات مختلفة لتفجير الشعرية,, وهي إضافة كبيرة لجماليات الابداع الشعري، فهي يجب ألا تنفي قصيدة التفعيلة، بل يجب أن تتجاور معها بهذا المنظور وحده يجب أن نطور ابداعنا ونطور مفاهيمنا,, التحاور وليس النفي التحاور لا المصادرة, ومن هذه الزاوية ايضا أرى أن القصيدة العمودية يجب ألا تموت,وأسأل أصدقائي المبدعين,, هل يمكن لفنان تشكيلي حديث مهما كان مذهبه ألا يكون متمكنا من رسم الوجود والأجساد والمفردات الطبيعية والحياة المحيطة بنا بدقة متناهية,, طبعا غير ممكن,, لكنه يستخدم هذه القدرات داخل منهجه الخاص في التعامل مع الإطار وبياض اللوحة والخط واللون,, في الشعر أيضا,, لا أتصور شاعرا يمكن أن يعطيني المذاق الشعري الخاص به نثرا أو تفعيلة أو شعرا كلاسيكا دون أن يكون متمكنا من الأدوات الأساسية لهذا الفن، ودون أن يكون متواصلا مع تراثه الخاص أولا ثم مع التراث الإنساني الشعري العام,,
هنا تكمن إشكالية الأصوات الجديدة التي تقفز مباشرة إلى النثر,, دون اصالة الصوت,, وهذا ليس مصادرة على ابداع أي مبدع، فهو فقط دعوة للتأمل والتفكير,, قصيدة النثر هي القصيدة المكتوبة تقرأ اقرا,, ولا تلقى,, أما قصيدة التفعيلة فهي وريثة الشعر الكلاسيكي الشفاهي الذي يحمل خصائص انشادية وغنائية,, وبحكم تكويني الخاص يراودني الحنين إلى أن أغني قصيدتي وعندئذ اكتبها تفعيلية، وعدا ذلك فقد اتجهت للنثر منذ سنوات.
* هل تعتقد أن قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية ستصبحان تاريخا مع وجود قصيدة النثر؟
لا طبعا,, سيحدث ذلك من منطق المصادرة والنفي الذي أوضحته وأرفضه بالقطع, ولو حاولنا ذلك نكون غير منطقيين مع تراثنا وتاريخنا الفني والابداعي والأدبي.
* ما هو تصورك لمستقبل الشعر مع تراكم عصر المعلومات والإنترنت,, إلخ؟
مساحة الشعر العربي تقلصت لا شك لصالح تطور فنون أدبية أخرى كالقصة والرواية لصالح فنون جديدة كالفن السينمائي والتليفزيون,, والصحافة بشكل عام قدمت بديلا أساسيا لوسائط الثقافة وبرغم ما لعبته من دور في نشر الابداع الأدبي والنقدي إلا أنها استولت على القارىء وأبعدته عن الكتاب الذي هو الأساس الطبيعي للثقافة, التغيرات التي تحدث حولنا كثيرة يمكن أن تؤثر على الفنون الأدبية جميعا لصالح الفنون المرئية وتؤثر على الكتاب لصالح شبكات المعلومات والكتاب الإلكتروني, ولكن يجب أن نفهم كل ذلك في إطار التنوع والتعدد وليس في إطار البديل الذي يلقي ما عداه, الشعر ينسكب في الفنون جميعا,, فالواقعية السحرية مثلا هي لون من التحام الشعر بالرواية,, الشعر يعطي ويعطي لكل الأشكال الابداعية الأخرى مكتوبة ومرئية ولا نستطيع الآن استدعاء مسألة ديوان العرب إلا كتاريخ,, الشعر هو لون ابداعي ضمن الوان كثيرة ومتعددة وجمهوره الآن هو جمهور خاص يتذوقه ويتذوق الابداع الأدبي عموما,,
والرواية هي الأوفر حظا لارتباطها بالفنون المرئية ولأنها تجسد حياة خاصة كاملة يصنعها المبدع بينما يجسد الشعر لحظة تأمل عميقة يصهر فيها المبدع ذاته وخبراته وتاريخه اللغوي في عمل مكثف,, فلا تتقلص أرض الشعر لكنها لم تزل خصيبة وقادرة على البقاء والعطاء.
فتحي عامر
|
|
|
|
|