أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 4th August,2000العدد:10172الطبعةالاولـيالجمعة 4 ,جمادى الاولى 1421

شرفات

شخصيات قلقة
إدفارد مونش (1863م - 1944م)
العالم كله يتحول إلى صرخة لا نهائية
ماتت الأم بالسل وإدفارد في الخامسة من عمره، ثم لحقت بها أخته الكبرى، مصابة بنفس المرض الخبيث، وكأنه قرر أن يحصد آجال الأسرة تباعاً, وكان الأب الذي كان يعمل طبيباً بالجيش يعامل إدفارد بقسوة وعنف، فكان يهرب منه إلى الشوارع والبيوت القديمة أو المروج على مشارف العاصمة أسلو.
وكان أول ما فعله بعد أن شارك في معرض الخريف لأول مرة أن استأجر لنفسه بيتاً منعزلاً يطل على شاطىء البحر المترامي، يرسم ويعيش بعيداً عن منزل الموت والكآبة، وبداخله أمل حقيقي في نفسه كفنان شاب، ولكن لا أحد من النقاد استطاع أن يدرك أهمية التصوير لهذا الشاب المسكين، فجاءت نظرتهم إلى أعماله محبطة، أشبه بحملة منظمة لقتله معنوياً، إذ عندما عرض لوحته ساعة المساء ، وصفها أحد النقاد بأنها فقيرة بشكل لا يمكن وصفه من كل النواحي، حتى أنها لتكاد تثير الضحك، وفي العام التالي مباشرة علق ناقد آخر على لوحته ليلة من ليالي الصيف بأنها بلا فكرة واضحة فضلاً عن الرسم الأهوج غير المتين!
لم يستطع مونش أن يرضي الذوق المتواتر سواء في مناظره الطبيعية أو لوحات الأشخاص, ونصحه أستاذه كروهج أن يسافر إلى باريس الأكثر تقدما بدلا من أن يظل في وطنه فريسة لزبانية النقد، وساعده في الحصول على منحة حكومية لعدة أشهر, وفي باريس تعرف مونش على الانطباعية ثم على التعبيرية من خلال صديقيه فان جوخ ولوتريك.
لقد وجد في التعبيرية صورة حديثة للرومانتيكية، توائم قلقه الروحي وغربته، وتعبر عن رؤيته الذاتية للوجود حسبما يراه، وتعمق هذا الإحساس التعبيري من خلال علاقته باثنين من مواطنيه وهما ستراند برج وإبسن، وكلاهما من اعظم كتاب المسرح العالمي, إلا ان لوحاته التعبيرية بما تنطوي عليه من هلاوس وهستيريا، وما تنذر به من خراب ودمار لم تلق القبول من النقاد الرجعيين ولا من السلطة البوليسية التي أغلقت معرضه في برلين بعد عدة أسابيع من افتتاحه عام 1892م, وكرد فعل اجتمع بعض الفنانين الألمان متضامنين مع صديقهم النرويجي إدفارد مونش، وأسسوا أول جماعة تعبيرية في ألمانيا وهي جماعة الجسر، التي تضم أريك هيكل وكيرشنر وكوك شكا وغيرهم.
في تلك الفترة كانت لوحات إدفارد ذات جو كابوسي، فالوجوه محطمة والملامح مختزلة ممسوخة، كأن أبطال لوحاته يفرون مذعورين من خطر ما، وثمة فراغ ووحشة وصرخات تمزق كآبة السكون!! أما خطوطه فتبدو ثقيلة حزينة تندفع إلى أعلى كأنها رقصة الموت, في لوحته الشهيرة الصرخة عبر عن إحساسه المضني بأن قواه العقلية تتبدد رويداً رويداً كالدخان, وعبر كذلك عن إحساسه الموحش بأن ثمة من يتعقبه من رجال البوليس أو المسوخ الشريرة، لدرجة أنه كان يعدو إلى البيت لاهثا ويطرق الباب بشدة، فتفتح اخته لورا وتراه يتصبب عرقا، جاحظ العينين، يصيح: أغلقي الباب,, إنهم يطاردونني,, آه,, كادوا أن يلحقوا بي!! وتتلفت لورا قبل أن تغلق الباب فلا ترى أحداً.
تحاول لورا أن تهدىء من روعه وتسأله: من الذين يطاردونك يا إدفارد,, لا يجيب,, وبعد إلحاح يهذي قائلاً: أنت لا تعريفنهم,, ولا يمكن أن تعرفيهم إلا إذا طاردوك، ثم يرتشف جرعة ماء وينساب في هذيان مرعب: كانت العاصفة شديدة، والليل قاتماً مقبضا، ثمة شعور خفي كئيب بأن شراً ما سيحيق بالوجود,, ثم يتوسل إليها أن تغلق النافذة، وحين تخبره أنها مغلقة بالفعل لا يقتنع، ويسألها أن تحكم إغلاقها مرة أخرى, ثم يهذي من جديد عن البشر المتشحين بالسواد، والعيون المتسعة، الريح وعتمة البحر، الصرخة التي تتبعه وهو يجري وثمة نظرات قاتلة تنغرس في عظام ظهره.
هلاوس النوم وهلاوس الأحلام وهلاوس اللوحات، تقفز جميعاً إلى حياته وتحيل واقعه إلى كابوس مرعب, تضطر اخته لورا وأستاذه كروهج أن يذهبا به إلى عيادة الدكتور جاكوبسون، بعد أن وصل إلى حالة سيئة، إذ يخشى من عبور الشارع ويصاب بالرعب من رؤية جبل أمامه، بالإضافة إلى أنه يشعر دائما أن جسد أمه الراحلة لا يزال ماثلاً في غرفتها,, وتحولت الوجوه في لوحاته إلى جماجم شاحبة تنتظر الموت.
بعد علاجه من الانهيار العصبي وقضائه عدة أشهر في المصحة تطور إدفارد فنيا على نحو غامض وغريب، حيث وقع في غرام الطيور، والحيوانات، ومن لوحاته في تلك الفترة الجواد الجامح عام 1912م, كما أنه كتب إبان وجوده بالمصحة قصة أسطورية بعنوان ألفا وأوميجا تدور عن الرجل ألفا الذي يعيش في جزيرة معزولة وزوجته، أوميجا التي ملت الحياة معه إلى أن هجرت الجزيرة نهائيا، فطار لب ألفا وراح يجري ملتاثاً على شاطىء الجزيرة وينادي زوجته الآبقة كي تعود، وصرخاته المجنونة تتردد في الفضاء المترامي.
وتسير الأيام يوماً طيباً ويوماً كئيباً,, لحظة توازن ولحظة جنون حيث استعاد إدفارد توازنه إلى حد ما، وأعد مجموعة زخرفية لتجميل مبنى جامعة أسلو واشترى بيتاً فسيحا في ضواحي المدينة، يجلس في حديقته بالساعات يتأمل الفراغ والشمس الساطعة, لقد صار رغم كوابيس لوحاته، أعظم المصورين السكندنافيين جميعا، لدرجة أن النازيين عندما غزوا النرويج وعينوا كويسلنج حاكما عسكريا، أرسل هذا الأخير إلى إدفارد كي يصبح عضوا في المجلس الفخري للفنون,كيف يتعامل إدفارد العجوز,, الفنان,, المجنون,, مع أولئك النازيين الذين أغلقوا المعارض وتعاملوا بوحشية مع أصدقائه التعبيريين؟ لقد قبضوا على ديكس واضطروا كوكو شكا إلى الانتحار بينما اختبأ بيكمان في امستردام, وإمعانا في التشهير والسخرية من هؤلاء الفنانين أقاموا بميونخ عام 1937م أغرب معرض تصوير، تحت عنوان: معرض الفن المنحل! عرضوا فيه لوحات التعبيريين بصورة مزرية وساخرة ومنحوا جائزة المعرض الأولى لأوسكار كوكو شكا!!من السخرية والعبث ان يطلبوا من إدفارد أن يضع يده المرهفة في أيديهم الملطخة بالدماء، خاصة أنه صار شيخاً فانياً يسمع خطوات الموت ووقع أقدامه الباردة على الأمواج، وعلى الصخور والرمال أيضاً.

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved