| الثقافية
* * قبل عامين اكدتُ في ندوة جريدة الحياة عن القصة السعودية القصيرة، ان هذه التجربة كانت في أغلب أو بعض نماذجها، وفي بداياتها قبل نحو 20 عاما قد دخلت في مغامرة مع اللغة إذ طغت عليها الأحلام الزجاجية والرملية ومغني الرصيف ذلك الطفل الذي منعوه من دخول بيت الزواج فهام على وجهه ليلا، بالاضافة الى طغيان الرمز أيضا، وربما كان الهاجس هو البحث عن لغة خاصة أو بصمة خاصة حققها بعض الكتاب في فترات لاحقة فتحققت هوياتهم الفنية وتحول النص الى البساطة والهدوء والصور الإبداعية العميقة للواقع المعاش مع لغة شاعرية شفافة ترفع قيمة التعبير والفن في النص القصصي المحلي الحديث, وقد اتفقت أغلب الآراء النقدية على ذلك مثلما هي تتفق الآن على ان هذه القصة تجاوزت بداياتها وهمومها اللغوية المفرطة وأصبحت تقدم الآن نماذج تتميز باقترابها من واقعها بلغة فنية عالية المستوى أشاد بها الكثير من النقاد هنا في بلادنا ومن نقاد العالم العربي.
ويقترب من هذا الهم شاعرنا وكاتبنا الكبير الأستاذ سعدي يوسف الذي اعترف أيضا انه تخلى عن جماليات كثيرة في كتابة الشعر وكذلك ابتعد قليلا عن لعبة اللغة لكنه يظن أنه مازال يبحث عن الدهشة في النص الشعري من خلال معادلات أخرى بعيدة عن مغامراته الجمالية واللغوية الأولى، لأنه كما أكد في برنامج تلفزيوني يبحث دائما عن كتابة جديدة بطرق جديدة.
وهذا يتطابق كثيرا مع توجهات القصة القصيرة المحلية والعربية التي تحاول ابتداع طرق تعبير جديدة حسب امكانات كل كاتب، وانا شخصيا أعتز بشهادات الكثير من النقاد السعوديين والعرب الذين أكدوا تميز هذه التجربة على المستوى المحلي والعربي ولا أنسى الرأي النقدي الهام لوزارة الثقافة المصرية على غلاف كتابي (إذعان صغير) بالاضافة الى الكتابات النقدية المتميزة عن الكتاب الأخير (أظافر صغيرة,,) بعد تجريب لغوي وتجريب طرق متعددة في الكتابين الأولين كان الفن فيهما طاغيا على المضامين.
* * وأظن أنه من الصعب القول أن القصة المميزة على كل المستويات الموضوعية والفنية هي تلك القصة التي تقع في المنطقة الوسطى ما بين القصة التقليدية المتعارف عليها بارتباطها المباشر بالواقع بقيمة أقل فنية وتلك القصة الحديثة التي تستفيد من المدرسة الرمزية ومن اللغة بقيمة أقل موضوعية وأقل ارتباطا بالمكان وبالواقع المعاش, هذا القول فيه تسطيح لعملية القص نفسها.
بمعنى ان هناك نصوصا قصصية تقليدية جيدة بتماسكها وإقناعها وافكارها مثلما يوجد نماذج رديئة من هذه القصة التقليدية المرتبطة بالمكان وبالواقع ارتباطا وثيقا ولكن بأفكار ومضامين وهموم وأسئلة متواضعة، بينما ايضا هناك نصوص قصصية حديثة وتجريبية اما جيدة واضحة الافكار عالية التقنية والفن ولها صلة حميمة بالواقع المعاش أو قصة مغرقة في لعبة اللغة والألفاظ والزخارف الشكلية التي لا معنى لها في الغالب.
وقد لا ألوم الزميلة ريمة المبارك في مقالها (الفن والمجتمع عبر الفضاء) حين ركزت على اشكالية ما يمكن ان نسميه القصة الحديثة التي كتبتها الأجيال الجديدة في البلاد العربية وفي بلادنا على وجه التحديد عندما ترى (أن مغامرات التجريب قد بهرتهم مع الاشكال الجديدة المصنعة في بيئات غريبة دون اختبار قدرة الاشكال الجديدة على التعبير عن واقع اجتماعي معاش أو عجزها عن الوفاء بهذه المهمة) وترى أيضا (أن من شأن ذلك أن يكرس للتخلي نهائيا عن أدنى التفات الى التعبير عن واقع اجتماعي معاش داخل ظرف راهن لمجتمع محدد والدخول في سباق خاسر لقدرات التلاعب بالألفاظ وبالتصريحات والحيل الشكلية), وهنا لا ألوم الزميلة لسبب بسيط أنني حتى الآن مازلت أقرأ النماذج القصصية المحلية صاحبة اللعب بالألفاظ ويكتبها زملاء لهم تجربة طويلة مع هذا الفن لكن مفاهيمهم عن التجريب لم تتجاوز حدود اللغة والدخول معها في مغامرات شكلية حيث ضعف الارتباط بين النص وواقعه وهمومه واسئلته الا في التفاتات صغيرة وضعيفة غير قادرة على التعمق في تفاصيل الواقع الاجتماعي، ليس بسبب استمرار افتتانها بالشكل فقط على مدى سنوات التجربة والتجريب ولكن ربما بسبب ان حدّة الوعي الاجتماعي والفكري والثقافي بشكل عام ضعيفة امام الامكانات الفنية التي يحاولون توظيفها في نصوص لا يبقى لها أثر في ذاكرة القارىء، وهذا لا ينطبق على الجميع ولكنه أيضا ينطبق على كتابات من الاتجاه الآخر التي تحاول ان تكون أكثر واقعية ولكن يلاحظ عليها دائما انها متواضعة على المستوى الفني بشكل عام.
(يتبع الأسبوع القادم)
|
|
|
|
|