| مقـالات
في حديث تجاذب بعضه قال لنا أحد محبي الأسفار: وقفت على مقبرة في بلدة غربية، فإذا على نصيلة أحد قبورها قطعة من الرخام في أعلاها نقش لمطرقة وتحتها كتابة، فطلبت من المترجم قراءتها فإذا نصها: من حرم نفسه من ماله ليتمتع به ورثته من بعده، فاضربوه بمثل هذه المطرقة !
حكاية غربية غريبة لكنها ذات مدلول اجتماعي عميق، فقد قالت أمثالنا العربية: ميتان على حسرة: عالم لم يعمل، ومالك لم يأكل ! وفي هذا المضمون، يقول الشاعر:
خذ من تراثك مااستطعت فإنما شركاؤك الايام والوراث ! |
يدعوك إلى أن تنال فرصتك من مالك فتتمتع به إنفاقاً وصدقة وتصرفاً حميداً، قبل أن يخبط فيه شركاؤك الآخرون وما أعجلهم!
وذكرتني حكاية هذه المطرقة، حكاية (الهر) الذي خاف منه أحد الأثرياء العرب! فتمتع بماله قبل أن يصل إليه (الهر) فيضرب فيه ضرب من لاشقي في جمعه! وخبره المشهور، يُشير إلى أن رجلاً يعيش في إحدى البلدان، قد أنعم الله عليه بمال وفير، لكنه محروم من متعة هذا المال، لتقتيره على نفسه وأولاده واقاربه، بسبب حرصه وبخله وحبه الشديد لجمع المال وكنزه وعدم إنفاقه! وضاقت به أسرته التي عجزت عن صرفه عن هذا البخل الذي أغل يده! ولكن الله سبحانه ساقه إلى موعظة بليغة ودرس عجيب أيقظ عقله النائم وبصيرته الغافية وهداه إلى الجود قبل الهمود، وإلى الإنفاق قبل النَفاق؟ وإلى أن يأكل من ماله قبل أن تأكل جسمه الأرض! فقد ذهب ذات يوم إلى بلدة مجاورة لبلدته لقضاء حاجة عرضت له، فوصلها بعد ان صلى الناس العشاء الآخر، فأقبل على منزل رحب ودار واسعة مفروشة مضاءة وضيوف يدخلون وصاحب الدار على الباب يُهلي ويرحب بالضيوف فقال في نفسه: من وافق خيراً فليوافقه ! فدخل مع الناس وأكل وشرب وتمتع بالطعام الطيب وترحيب رب الدار، ولما انصرف الناس، أقبل على صاحب الدار يُودعه، قائلاً له: أنا رجل غريب دخلت البلدة هذه الليلة، ورأيت وليمتك فدخلت مع الناس، وإنني معجب بكرمك وجودك وقوة نفسك على بذل المال، وأنا رجل ممسك لا أستطيع نفسي على الإنفاق، فهل حدثتني عن نفسك؟! ابتسم صاحب الدار، وأخذ صاحبنا إلىمرتفق قريب منه، ومضى يحدثة بخبره: أنا رجل لا حرفة لي اتكسب منها، ولكن رزقي على الأرامل الثريات، فإذا سمعت في البلدة أن ثرياً محروماً توفي عن زوجة، صبرت حتى تنتهي عدتها، ثم أخطبها وأتزوجها وأخبط بعد ذلك في مالها حتى تُفلس، فأطلقها وأبحث عن صيد سمين غيرها! تململ صاحبنا في مجلسه وودع صاحب الدار، وخرج إلى الفضاء وكأن الوعي قد عاد إليه، ومضى يحث الخطى إلى بلدته، فأدركها في الضحى ولم يذهب إلى منزله، بل ذهب إلى السوق واشترى من الأطعمة والأكسية والأرزاق ماقدر عليه في وقته واستأجر أجيراً لحمله ومضى خلفه، وطرق الحمال باب صاحبنا، ففتحت له زوجته، فقال لها الحمال: افتحي الباب للخيرات! فاندهشت الزوجة من الأحمال، وقالت للحمال: لقد أخطأت العنوان زوجي لايجلب مثل هذه الأرزاق! فابحث عن العنوان الصحيح ! في تلك اللحظة أقبل عليهما الزوج وهو ينشد:
نبي نبيد المال قبل مايبيدنا قبل مايجي للمال هِرِّ ياكله ! |
وتمتع صاحبنا بماله، وأنعم على زوجته وأولاده وأقاربه بخيرات الله التي وهبها له، ولم يجد نفسه بحاجة إلى أن يُوصي قبل مماته بنقش مطرقة على قبره ليُضرب بها على رأسه كل من حرم نفسه من ماله ليتمتع به ورثته! كما فعل (الغربي) فقد أخذ صاحبنا (المطرقة) وهو حي يرزق وطارد البخل في دهاليز عقله، فأدركه مختفياً في أحد تجاويف المخ فضربه بالمطرقة على أم رأسه!
لقد وُعظ بالصواب قبل فوات الأوان!!
عبدالكريم بن صالح الطويان
|
|
|
|
|