| مقـالات
العنوان أي عنوان سواء: أكان على جدار أو على صفحة كتاب أو في صدر مقال أو على رأس بحث، يشكل تساؤلاً، ويثير قضية, وقد اطلقت كلمة (لافتة) على اللوحات الجدارية، لمجرد أنها تلفت نظر عابري السبيل إلى ما في داخل المبنى أو تلك المؤسسة، بحيث تكون تلك المنشأة اجابة أولية لعبارة هذه اللافتة, وما في اخل الكتاب يكون جواباً تقريبياً للعنوان.
الكتابة إذاً اجابة لتساؤل، يضعه الكاتب عنوانا لكتابته أو مقالته أو محاضرته, وحين يند الكاتب أو يشطح أو لا يجيب على تساؤله الذي طرحه باختياره، يعاب عليه ذلك، ويوصف فعله بخداع العناوين، وقد قيل عن تفسير الرازي: (فيه كل شيء إلا التفسير) وهي مقولة ناقدة، تجمل أفدح العيوب في العمل, فإذا فقد المشروع وظيفته الرئيسة، واشتغل بهوامش لاتحرر مسألة، ولاتحقق معلومة، كان عملا متجنيا لا يؤبه به، ولا يلتفت إليه, ومن ثم كان لابد من تحديد مقاصد فقرات التساؤل ومدلولاتها التركيبية بوصفه عنواناً ينهض بدلالة تقارب المصطلح ولا تكون إياه, (فالوعي) هنا على الأقل لايعني قابلية التجميع الحسي داخل وعاء, لقد تجاوزت كلمة (الوعي) مدلولها المعجمي المحدود إلى آفاق دلالية متنامية، يتعذر احتواؤها، واصبحت ذات دلالات اصطلاحية ولغوية وحضارية متعددة، تفهم من السياق او الانساق أو مما استقر في الذهن.
وحين نلتقط كلمة (وعي) من سياقاتها المعرفية المتعددة، ونحاول تخليصها من تبعات التعدد الدلالي الذي يقترب من حد التناقض لتكون ذات مدلول واحدي، ينهض بمراد التساؤل الذي طرحناه، نكون قد قاربنا المراد واقتربنا من تحديد الغاية.
(والوعي) إذاً كما نريده: إدراك الشيء في سياقات متعددة وعلاقات متنوعة إدراكاً يعطي لكل سياق ولكل علاقة أداءً مغايراً ومفهوماً مغايراً، بحيث يجعل الشيء أشياء قد تناقض بعضها، وذلك مكمن الخطورة ومكمن أهمية الوعي الذي نسعى لتحقيقه, ولك ان تضيف (الوعي) مع تلك التعددية السياقية إلى مالا نهاية له، بحيث يتعدد مدلوله السياقي بتعدد الاضافات او الصفات تقول: وعي ديني، وسياسي واجتماعي وفكري,,, الخ, وهنا نستعيد كلمة (وعي) بعد وعي مدلولها لا من خلال مادتها اللغوية وإنما من خلال سياقات تصورية أو افتراضية أو من خلال استقرار مصطلحي,وعلى هذا الأساس (فالوعي) ليس مجرد إدراك الدلالة اللغوية المباشرة للشيء مفصولاً من سياقه ومن علاقاته ومن نتائج هذه العلاقات ومن التحولات الدلالية عبر الزمن, وهنا تقترب مقاصدنا (بالوعي) من التحرر والتميز، بحيث يكون مصطلحا لا يفارق الدلالة الوضعية، وإنما ينطلق منها متنامياً مع الأنساق والسياقات والعلاقات,والوعي في ضوء سياقاته المتعددة اصبح من اشكالية العصر المعقدة, والذين يعرفون الاشياء مستقلة مجزأة أو مبتسرة من ملابساتها وظروفها وأنماط واقعها، ولا يضعون حسابا للعلاقات يمنون بالاخفاق والاحباط, فالوعي المراد في بحثنا هذا وفيما يشاكله يعني: إدراك علاقة الاشياء بغيرها، أو ما تنشئه تلك العلاقات من متغيرات ليست على وتيرة واحدة, وفرق بين خصائص الشيء مجرداً وعلاقاته الناشئة من المجاورة او المفاعلة, فالماء شيء، وحين يتفاعل مع مواد أخرى يكون شيئاً آخر, هذا على مستوى المحسوسات، أما على مستوى المعنويات فالامر أعمق في تصوره, والاداء المنتج إنما هو وليد تفاعل الأشياء مع غيرها عبر علاقات ليست من خصائصها بالضرورة, فشروط قيادة السيارة علم، وممارساتها مهارة وفن، والطريق مضمار لممارسة القيادة، وعلاقة المركبة بالمضمار ليست ماثلة كالمركبة والطريق، إنما شيء آخر يصنعها الوعي بالعلاقة بين الطريق والمركبة وسمات كل منهما ومميزاته وظروفه الطارئة او الملازمة, ذلك مثل أردنا طرحة لنقترب من فهم الوعي الذي نريد، الوعي الذي يكاد غائباً عن الأكثرين، ممن يتصورون انهم أوعى من غيرهم، ومكمن الخطورة في غياب مثل هذا النوع من الوعي عندما يكون واقعاً في النخبة، متمكنا من المثقفين، وأصحاب الخطاب المتعدد الانتماءات، الوعي الذي نسعى جهدنا لتأكيده وتنميته مزيج من قدرات وملكات متعددة، قدرات استيعابية، وقدرات تصنيفية، وقدرات تحليلة، وقدرات استنتاجية، وقدرات تفعيلية لا انفعالية، وقدرات ابتكارية لا استلابية، وقدرات عملية منتجة، وقدرات معرفية, إنه القدرة على فهم الاشياء مجردة، وفهمها متلبسة بغيرها، وفهمها في إطار تحولاتها وعلاقاتها, ثم هو القدرة على التكيف مع المتغير، واستغلال المعرفة المتاحة، وممارسة الفعل على ضوء معرفة متعددة المستويات.
إنه القدرة على انتقاء البديل الامثل في مواجهة الطارئ, إنه التصرف الأكثر دقة وانضباطاً في المواقف المفاجئة والحرجة والمتداخلة, إنه الفعل الحضاري التجاوزي القصدي التأسيسي لا التنقلي من سراب لآخر, إنه القدرة على التحكم بالذات وامتلاك المشاعر وترشيد العواطف في كل المواقف الذاتية والغيرية، وضبط النفس، إنه المبادرة واتخاذ القرار في أحلك الظروف، إنه حوار الحضارات دونما تشنج أو صدام، ودونما خنوع أو استسلام, هذا هو حلمنا، وهذا هو هاجسنا، وهذا هو تطلعنا, يروى أن معاوية الحليم، وعمرو بن العاص الداهية، تفاضلاً في مواجهة المعضلات، فقال معاوية: ما دخلت في شيء إلا أحسنت الخروج منه، وقال عمرو: ما دخلت في شيء إلا وقد عرفت من قبل كيف أخرج منه, والقادة العسكريون المهرة، يضعون خططاً للهزيمة والانتصار، بل يضعون في حساباتهم عدة احتمالات، بحيث لاتفاجئهم الأحداث، ومن أراد السلام فليستعد للحرب.
والوعي في ضوء ما ضربنا من امثلة، وما سقنا من مؤشرات: مجموعة من عمليات معقدة، وآليات دقيقة، يقودها فكر مستنير، وعقل عملي ليس هو كل ما يريده كانت في نقده لصنفين من العقول: (المحض، والعملي), إنه التصرف الحكيم الذي يزن الأمور بتقدير وتوقيت دقيقين, وأخطاء التوقيت والتقدير من عوامل الانتكاسات التي يمنى بها كثير من النخب الفكرية، والثقافية، والسياسية، ورجال الأعمال، والعسكريين, ولو قرأنا مذكرات الساسة والعسكريين بتمعن لتبين لنا أن الانتصالات والنجاحات ليست مرهونة بالتفوق العسكري، وإنما هي مرتبطة بالخطط العسكرية المخادعة.
وكم من مشاريع مصيرية باءت بالفشل لمجرد أنها جاءت في غير وقتها، أو نفذت في غير مكانها الطبيعي، سواء كانت بيئة ذهنية أو اجتماعية أو جغرافية أو ما شئت من المؤثرات المباشرة أو غير المباشرة، وكم قيل: جاء فلان سابقاً لوقته, لقد منيت كثير من دول العالم وأحزابه بنكسات موجعة بسبب طموحات فقدت التوقيت والتقدير: تقدير الذات، وتقدير الآخر، وكم من نكسات عسكرية موجعة وقعت بسبب غياب الوعي العسكري لا بسبب ضعف القوة العسكرية, والوعي والعقل صنوان تبادليان في مفهوم المتناولين لهما, ولكنهما قد يختلفان في إطار من الخصوص والعموم, يقول العقاد في مجموعته الفلسفية: (والوعي والعقل لا يتناقضان، وإن كان الوعي أعم من العقل في إدراكه, لانه مستمد من كيان الانسان كله، ومن ظاهره وباطنه وما يعيه هو وما لا يعيه، ولكنه يقوم به قياماً مجملاً محتاجاً إلى التفصيل والتفسير), فكأن العقل يعطي المواصفات، والوعي يحدد الاختيارات، ومن ثم لا قيام لأحدهما بغياب الآخر، وكما يتراتب العقل والروح والنفس، يتراتب العقل والوعي.
والعقل: قدرة اجرائية وتقنية منهجية وفعالية نقدية, ذلك ما جد من تعريفات متداولة ثلاثية الأبعاد, وإذ يكون كذلك أو قريباً منه، فإن الوعي لا يعني حفظ الأشياء كما يتصور البعض، والحفظ مادة الفكر، وليس هو الفكر كما قيل، وعلى ضوء ذلك فإن الاستيعاب النصي للمتون لايمت إلى الوعي بصلة، وإنما هو تجهيز لممارسة الوعي, يكون الإنسان حافظاً للقرآن الكريم مقيماً لحروفه وما يقدر عليه من حدوده، ولكنه لا يكون واعياً لمدلوله، مدركاً لأهدافه، مستفيداً من غناه اللغوي والجمالي والدلالي في ممارساته الكتابية والكلامية, ولو أن حفظة القرآن يعونه بهذا القدر الذي أشرنا إليه لكانوا عباقرة استثنائيين, فالقرآن كلام الله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: بلغوا عني ولو آية فرب مبلغ أوعى من سامع , وقال: ليبلغ الشاهدُ الغائبَ فإن الشاهد عسى أن يُبلِّغ من هو أوعى له منه قال الشارح: أي: أعقل وأحفظ.
إذاً فالسامع يحفظ، ولكنه قد لا يعي او يعي بقدر أقل, ولهذا جاءت صياغة التفضيل عمن لا ينطق عن الهوى، فكلمة (أوعى) من سامع، تدل على أن الحفظ شيء والوعي شيءٌ آخر والتمثل غير ذلك، وإلا فكيف يتم التبليغ إلا عن طريق حفظ الرسالة, وما الرسالة إلا القرآن أو السنة أو هما معاً, ولهذا ندب القرآن نساء النبي لتبليغ الحكمة وما يتلى في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وهما: القرآن والسنة المتمثلة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره, قال تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) آية 34 الأحزاب, ويكاد المثل الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لمستويات التلقي يكون مغنيا عما نذهب لايضاحه.
لقد وصف الأذهان المتلقية لهذه الرسالة الخالدة العظيمة بالأرض التي تتلقى المطر، وهو رمز الحياة, فمنها ما يحفظ الماء للمنتفعين دون تمثل، وتلك الأحادب، ومنها ما ينبت، أي يتمثل ما يتلقى، وهي الأرض الطيبة، ومنها الذي لا يحفظ ولا ينبت، فيكون وحلاً يؤذي، وتلك القيعان, والأرض هنا مثل حي في مقابل الوعي وتفاوته بين الأناسي, ونحن هنا نريد الذي يحفظ ويفهم ويتمثل ويؤدي للآخرين، وهذا هو الوعي الذي ننشده ونتطلع إلى مثله.
والذين لا يتصورون الوعي بالقدر الذي نطمح إليه ونسعى لتحقيقه يخلطون بين الوعي والحفظ, أو بين الوعي والذكاء, أو بين الوعي والطاقات المنتجة أو المهارات الآلية, ومع أن هناك تداخلاً دائرياً بين هذه الثنائيات، فإن لكل منها مدلوله المتميز, وفي ضوء هذا الخلط يباهي البعض بمقدار ما يحفظ من جيد النثر وجميل الشعر, وكم نسمع ونقرأ عمن يحفظون عشرات المتون، ومئات القصائد، وآلاف الأبيات والحكم والأمثال، وقل أن تجد من بين أولئك المتباهين أو المتباهى بهم من يمتلك القدرة على معالجة أدنى القضايا معالجة واعية تدل على تفهم وإدراك وتوظيف سليم للمكتسبات القرائية والتجريبية ولك ان تتجاوز كل أولئك وتنظر إلى بعض من يحفظون القرآن الكريم ويجودون تلاوته، ترى أن القليل منهم من يعي بعض مقاصده ويتمثل طرفاً من مراده، ويستثمر طائفة من آياته في مواجهته للاشياء، وفي ذلك دليل قاطع على ان الوعي شيء آخر يختلف تماماً عن الذكاء والحفظ, إن حفظ النص أو معرفة الحدث أو حتى معايشته لا تعني وعيه الوعي الايجابي المستثمر على حد: (العاقل من وعظ بغيره)، وقد أشار الذكر الحكيم إلى من لا تغنيهم الآيات والنذر، وعلى هذا فإن الوعي ليس حفظ الشيء ولا معايشته, إنه شيء آخر يتجاوز الحفظ والمعايشة معاً، إنه فهم الشيء مجرداً أو في سياقه وعلاقاته وإدراك اسبابه ودوافعه ومقاصده وحجم امكانياته, ووعي الذات المواجهة له, والتوقيت الدقيق لممارسة الفعل أو رد الفعل معه, وتقدير النتائج على ضوء المعلومات الدقيقة الشاملة للحدث، وظروفه، وواقعه، وامكانيات المنتجين له والمواجهين له, وحين نقول بأن للحدث ظاهراً يشاهده العامة وباطناً لا يعيه إلا الخاصة، فليس ذلك من مذهب الباطنية في شيء, إذ الظاهر والباطن قائمان ولهما مدلولات بحجم التعددية الفكرية لكل طائفة, ولن نشطح في الاستطرادات إلا بقدر نفي المحاذير, والبلاغيون تناولوا (المعنى) و(معنى المعنى) وتعالق ذلك مع الكناية والتورية، وهي مستويات دلالية لا يدركها إلا المتخصصون المعنيون.
|
|
|
|
|