| مقـالات
من أجمل وألطف قصائد أبو الطيب المتنبي تلك التي يقول فيها:
وزائرتي كأن بها حياءً فليس تزور إلا في الظلام بسطت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي |
فهو هنا طبعاً يقصد الأنفلونزا ولا أدري ماذا كان اسمها في أيام المتنبي, وبيتا الشعر هذان هما من بقايا ما كنا نحفظ من أبيات شعر وقصائد عندما كنا في المدارس وعندما كان التعليم تعليماً بحق وعندما كنا صبياناً نكتب بلغة راقية وأسلوب سليم قد لا يجيدهما الآن خريج الجامعة, ولا أقول هذا من قبيل التباهي ولكنها الحقيقة التي يوافقني عليها أبناء جيلي ومعظم من أتى بعدنا من أجيال, وفي الواقع أنني أنا شخصيا لم أطور أسلوبي ولم أعمل على الرقي بقدراتي الكتابية هذا إن وجدت وذلك لأسباب عديدة منها أن ما أشاهده اليوم من كتابات تصيبني بالإحباط وعلى قدر ما أحاول أن أفهمها إلا أنني أبوء بالفشل الذريع وأرتد منكمشاً على نفسي أندب حظي الذي قصر بي عن اللحاق بركب الحداثة أو كما يسمونها, السبب الآخر لعدم تطور أسلوب كتابتي هو أنني أخذت بعد الدراسة الثانوية كما يعرف معظم الذين سيقرؤون هذه المقالة لأنني أعرف أن من يقرأ لي معظمهم من أصدقائي وهم يفعلونها من باب المجاملة أو من قبيل حقوق الصداقة لأنني أنا نفسي في معظم الأحيان أقرأ لأناس اعتبر معظمهم أصدقاء كي أتمكن من أن أهاتفهم وأناقش معهم ما كتبوا.
كنت أقول انني عندما التحقت بقسم اللغة الإنجليزية أصبحت حتى بعد تخرجي من ذلك القسم وعمل بعض الدراسات العليا أصبحت مثل الغراب الذي قيل في المثل انه حاول تقليد الحمامة في مشيتها فلم يفلح ثم أراد أن يعود إلى مشيته الأصلية فلم ينجح أيضاً, لا أنا أتقنت الكتابة بالإنجليزية ولا استطعت أن أطور أسلوباً راقياً خاصاً بي بلغتي الأم ويالأسفي.
المهم ماذا كنت أقول ولماذا بدأت هذه البداية آه نعم أريد أن أتكلم عن الانفلونزا التي غزت المتنبي واستقرت داخل عظامه, لا أدري ماذا كان شكل أنفلونزا المتنبي وكم كانت تقسو على ضحاياها, من شكوى الشاعر ندرك أنها تمكنت منه واحتلت جسمه وعبثت به, إلا أنني لا أشك للحظة واحدة أن الشيخ المتنبي لو جرب الانفلونزا التي تهاجمنا هذه الأيام لكانت استغاثته على شكل آهات وونات وتأوهات تخرج من أعماق الصدر وليس على شكل أبيات شعرية, لقد طور هذا الوباء اللعين نفسه حيث يأتينا كل يوم على شكل جديد وبفيروسات شرسة مكشرة عن أنيابها تنهش أجهزتنا التنفسية وتنفذ منها إلى ماهو أكثر وأشمل من الأجهزة التنفسية, تصاب بهذه الزائرة الثقيلة فما أن تدخل جسمك وتتغلغل في أعصابك وتجري في عروقك الدموية حتى تحس وكأن مائة عملاق جبار قد أنهالوا عليك بهراوات يدقون بها الجسم الضحية ليل نهار دون كلل أو ملل، وتستنجد بالدكتور وبنصيحة الأصدقاء وتجرب كل دواء متاح, وتخضع طبعاً مجبراً إلى تناول كل أنواع الأدوية الشعبية وغير الشعبية التي تأتيك بها زوجتك والتي لا تجرؤ على رفضها لأن الزوجة لا تقبل (لا) لأوامرها, شربت من الأدوية والتركيبات التي أتت لي بها أم نزار بناء على نصيحة من خالة أو عمة أو أخت ما يثير غثياني حتى وأنا أكتب عنها الآن, لكن كما قلت لم يكن لي خيار الرفض, ومع كل ما سبق تسمع أخيراً من يخبرك أن الفيروسة جديدة أو هي قد كيفت نفسها بحيث لم يعد ينفع معها إلا أن تستنجد بها أن تتركك وشأنك, ولكن هيهات.
كنا نعرف أن شدة أيام الانفلونزا ثلاثة أيام أما الآن فقد امتدت حتى وصلت إلى عشرة أيام ونصف شهر وأن آثار الارهاق والتعب منها أصبحت تزيد على ذلك.
لكن دعوني أقول أخيراً لماذا أخذت هذا الموضوع المزعج مادة لمقالة هذا الأسبوع, السبب أنه بعد أن قاسيت أشد القسوة من أشرس انفلونزا احتلت جسمي لأكثر من أسبوعين كاملين تركتني أخيراً بعد أن سلبت مني جوهرتين عزيزتين من الجواهر التي أودعها الله تعالى فينا والتي نأخذها كقضية مسلمة يضعها الله تعالى في أجسامنا مع غيرها من نعمة على الإنسان عندما يولد, هاتان الجوهرتان هما حاستا الشم والتذوق, غادرتني الأنفلونزا الغادرة لكنها تركت بصمات شديدة الوطأة وشديدة العذاب عليّ, لم أعد أشم ولم أعد أتذوق الطعام, ولا أحتاج لأن أقول كم هي هذه الحواس هامة وحيوية وأساسية لحياة طبيعية, استيقظ كل يوم وأسرع إلى قزازة الكولونيا أو أي عطر آخر وقبل أن اتناول الطعام أحاول أن أشم رائحة ما أفضله منه ولكن يأبى الأنف ويأبى اللسان وجهاز التذوق أن يعملا, لقد سلبتني الأنفلونزا هاتين الحاستين وأنا حزين جداً لفقدهما لكنني لم ولن أفقد أملي بالله تعالى أن يعود فينعم عليّ بواسع فضله الذي لا نحصيه ولو جهدنا, ولقد عاد إلى بعض الأمل في الشفاء ان شاء الله بعد أن راجعت بعض الأطباء في مستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة وأخص بالذكر الدكتور الشاب سعد المحياوي الذي راجعته مرتين وفي كلتا المرتين طمأنني أن مثل حالتي هذه ليست نادرة الحدوث وأن الحاستين المفقودتين سوف يعودان وأن بعد بعض الوقت, لقد أعاد إليّ الدكتور سعد بلباقته واهتمامه ونبرات صوته الواثقة وكذلك الدواء الذي وصفه لي أعاد إليّ الأمل بأن ما أخذته الأنفلونزا مني ظلماً وعدوانا سوف استرده بإذن الله ولو بعد حين.
ولكن إلى كتابة هذه الكلمات ما زلت آملاً أن استيقظ يوماً لأجد أنني أشم عطري المفضل أو لعله لا يوجد لدي عطر مفضل ولكن أشم أي عطر أو أي رائحة جميلة وأتذوق الأكلات التي تعرف أم نزار أنني أفضلها والتي أصبحت تضعها أمامي الآن بشيء من الحذر القلق وهي تنظر إليّ من طرف خفي لترى رد فعلي.
وإلى الآن وزوجتي الغالية صامتة فهي تنظر إلى وجهي ولا تسأل أسئلتها المعتادة التي اعتادت أن تسألنيها عن مدى لذة الطعام واعجابي به حتى قبل أن أبدأ بمضغ أول لقمة.
|
|
|
|
|