| الاقتصادية
لا شك أن للمال دوراً خطيراً في حياة الأمم والشعوب فهو عصب الحياة والممسك بزمام المشاريع والأعمال، لذلك تغلغل حبه في أعماق البشر واحتل منهم مكان الصدارة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الحب الجارف بقوله تعالى: وتحبون المال حباً جماً الفجر/20, والله سبحانه وتعالى قد جعل حب المال والرغبة في تملكه غريزة متأصلة في نفس الإنسان بيد أن هذا الحب هو سبب كثير من الجرائم الاجتماعية والاقتصادية والمفاسد الأخلاقية.
وللأسف، فقد انطلق الإنسان يتفنن في وسائل جمع المال وتنميته وتكثيره ومن ثم صيانته وحمايته، كما تفنن في وسائل إنفاقه والتصرف فيه، الأمر الذي أدى به إلى رذيلتين اجتماعيتين: الأولى: شح وبخل والثانية: إسراف وتبذير فهذان الطرفان مذمومان شرعاً وعقلاً.
لذا، ورد التحذير من رذيلة الشح والبخل، كما في قوله عز وجل ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم، بل هو شرّ لهم آل عمران:180.
ففي الآية وعيد شديد لمن يبخل ببذل المال في سبيل الله فلا يتوهم البخيل بأن بخله خير له، بل هو شر له، لأنه سيحاسب على بخله وشحه يوم القيامة.
كما توعد سبحانه الذين يجمعون الأموال ويكنزونها ولا يؤدون حقوق الله فيها ولا ينفقون على أهليهم وعيالهم ويهضمون حقوق الناس، قال تعالي: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون التوبة/ 34 35.
وما هذا الوعيد الشديد، إلا لأنه يتولد عن ذلك تنمية الحقد واستفحال الضغائن بين أفراد العائلة الواحدة.
إن الشح يعد من أكبر الآفات التي تضر بالمجتمع الإنساني، والثابت أن الشح متعب أيضا للروح والنفس والقلب، وكلما كان المال أكثر كان الحرص أشد وأقسى، فعلى العاقل المتزن ألا يجمع المال الكثير، فإذا جمعه فعليه أن ينفق منه في الوجوه الشرعية.
يقول الدكتور محمد أحمد درنيقة في كتابه: قبس قرآني على المجتمع : لقد تنبه كبار الفلاسفة والمفكرين إلى الأضرار الناجمة عن اللهث وراء المادة، فدعوا الإنسان إلى تحصيل مقدار حاجاته الضرورية، ثم التفرغ لتحصيل العلوم والمعارف.
ومن جهة أخرى حذر القرآن الكريم من رذيلة الإسراف والتبذير والترف الزائد الذي يملأ قلوب المحرومين حقداً وضغينة على المترفين المتخمين.
وقرن القرآن الكريم المبذرين والشياطين بقوله تعالى: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين الإسراء/27.
والواقع ان إضاعة المال تؤدي إلى خراب الأمة ووقوعها على خط الفقر، فتضطر للاقتراض ثم لا تلبث أن تصبح لقمة سائغة للدائنين.
وقد نبه علماء الأخلاق إلى أنواع من البشر يبذلون أموالهم طلبا للسمعة والرياء أو تقرباً إلى السلطان، فهؤلاء ليسوا بكرماء، كما أنهم لاحظوا أن أكثر الورثة يميلون إلى التبذير، لأنهم لم يجهدوا في سبيل الحصول على المال.
وذلك أن المال صعب الاكتساب، سهل الإنفاق والتفرقة، قد شبهه الحكماء بمن يرفع حملاً ثقيلاً إلى قمة جبل ثم يرسله، فإن الأمر في ترقيته وإصعاده صعب، ولكن ارساله من هناك أمر سهل.
إن المنهج الذي ارتضاه الإسلام لهاتين الرذيلتين (الشح والإسراف) يكمن في فضيلة الاعتدال, قال تعالى: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً الفرقان/67، وقال سبحانه: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط,, الإسراء/29.
في هذه الآيات نهي عن البخل والإسراف المذمومين وحث على التوسط والاعتدال في إنفاق المال.
فالمسلم منهيٌّ عن الإسراف والشح، فالاول يضيع المال ويفسد الفرد والمجتمع، والثاني يقوم على حبس المال عن انتفاع صاحبه به، وانتفاع الجماعة أيضا.
فهذان الأمران يحدثان اختلالاً في المحيط الاجتماعي ويؤديان إلى الأزمات الاقتصادية,, ومن هنا كانت فضيلة الاعتدال التي حض عليها القرآن.
ومن المعلوم، أن المال سلاح ذو حدين، فهو مفيد إذا أحسن المرء استعماله وتصرف فيه بوعي، وما ينطبق على الفرد يندرج على الأمم والجماعات, أحسنت الأمم التصرف بثرواتها وأموالها واستفادت منها في إقامة المشروعات وتعميم المنشآت وتقديم الخدمات، فإنها تقوى وتنهض وتتقدم وتحافظ على استقلالها وتصون سيادتها.
أما إذا أساء المرء التصرف بالثروات والأموال وبددها بلا روية، قاده ذلك إلى الفقر والمذلة.
وكذلك الجماعات والأمم والشعوب، متى ما أساءت التصرف بمقدراتها وثروتها، فإنها ستقع نتيجة لذلك تحت وطأة المستغلين، الذين لا يلبثون أن يطمسوا معالمها ويبتلعوا خيراتها، ويضيعوا حضارتها ويجعلوها تحت حكمهم وسيطرتهم.
وخلاصة القول: إن المال ينبغي أن يكون في الجيوب لا في القلوب، وأن يكون وسيلة لفعل الخير والمبرات لا غاية يُسعى إليها، وأن يُكتسب من حلال لا من حرام ولا من شبهة، وألا يكون في إنفاقه تقتير أو تبذير وأن يكون منه نصيب للفقراء والمحتاجين.
* عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - عضو جمعية الاقتصاد السعودية
|
|
|
|
|