| مقـالات
في كلام هذا الآثم الملحد ألبير كامو الذي عُني به المعاصرون ولاسيما ذوو النزعة الوجودية، وأصحاب مجلة الآداب ما لا يطيق القلم رسمه، ولا يطيق اللسان نطقه في حق ربنا سبحانه,, وقراأة (1) كتب كامو للمتعة الأدبية ستجعل الأديب على مر الأيام يأنس لألفاظ الكفر فلا يتحرج من استعمالها,, وإذا كثر الإمساس قل الإحساس, وكما يقع الذباب على العفن، وكما يفرح مفتش الزبالة بأنتن بقعة: يسقط كامو على إحدى شخصيات الإخوة كارامازوف لدوستويفسكي، وهو إيفان فيدور بافلوفتش كارامازوف,, وهذه الشخصية الوهمية رمز عند كامو للإنسان المتمرد؛ لأن إيفان يتحزب للبشر، وينوِّه ببراأتهم (2) ، ويصف كامو رمزَه الوثنيَّ بتأكيده الجور في الحكم بالموت؛ لأنه يثقل كاهل البشر,, إنه يدافع عن العدالة ويجعل لها مقاماً فوق مقام الألوهية,, ويهوِّن كامو من شأن الكفر عند إيفان الرمز؛ لأنه لاينكر وجود الله، ولكنه يعترض على ربه باسم قيمة أخلاقية!!,, ويقول ثانية: إن تجديف إيفان موقَّر لا يقصد إنكار سلطان الألوهية، بل هو اشتراك في القدسيات,, وهذا الاشتراك ليس هو الابتهال والخضوع لله جل جلاله، بل محاكمة قضاإِ الله بخطاب الند للند؛ فتكون مقابلة القساوة بالتشامخ.
قال أبوعبدالرحمن: ها هنا خمس وقفات:
الوقفة الأولى: أننا لا نقول: الأصل في البشر البراأة فحسب,, بل الأصل فيهم الفطرة المحبوبة عند الله، ثم بعد ذلك تتبدل الأحوال؛ فمنهم من يتمثل عهد الله الشرعي، ويعتصم به عن هوى النفس شبهاتٍ وشهوات، وعن كيد الشيطان، ومنهم من يتمرد على عهد خالقه فيكون من أهل الهلاك.
الوقفة الثانية: العقل الذي يعيش به المتمرد مفطور على معقولية وواقعية المقايضة,, المقايضة عن آلام محدودة، وتكليف مؤقت غير شاق ولا محال بنعيم دائم، وملك عظيم,, وليس هذا فحسب، بل تتحول الآلام المحدودة، والتكليف المؤقت إلى لذة ونعيم إذا صدق الإيمان,, وهذا شيأق يعيشه المُأمنون ويشهدون به.
الوقفة الثالثة: العقل الذي يعيش به المتمرد يشهد بالضلال والمكابرة والظلم في التمرد باللسان فقط مع أن الحيلة خاسِأَة عن التمرد فعلاً على تصرف الله في ملكه بإحسانه وعدله حتى يقوم له من جنونه واقع يملك به حتمية الخلود، وسعادة الوضعية بحرية لا يحكمها تدبير الله، وفي كون خارج عن ملك الله,, وأنى لجند إبليس أن يحلموا بذلك؟!.
الوقفة الرابعة: أن سلطان الله قائم على الحكمة التي لا يحيط بها المخلوق، وعلى النعمة والإحسان اللذين يجحدهما المتمرد، أنه لا ينكر سلطان الألوهية، بل يشارك في القدسيات: دعوى كاذبة؛ لأنه لا ينال من التقديس بمقدار إلا من منحه ربه ذلك لقاأَاعتصامه بشرعه، ولأنه لا مجال للمكابرة في سلطان الله من المتمرد المهزوم بالانتحار: جسدياً، أو فكرياً، أو نفسياً,, ولأن القدسية كلها في سلطان الله جل جلاله، فهو مقدس في قدرته، ومقدس في عدله، ومقدس في رحمته وإحسانه.
الوقفة الخامسة: يتحامق هذا المتمرد لا عنه قناعة فكرية، بل من أجل تضليل الآخرين : بأنه لا ينكر وجود الله، ولكنه يعترض على ربه باسم قيمة اخلاقية!!,, قال أبوعبدالرحمن: الذي يحدد القيمة العقل: إما تلقِّياً عن الشرع، وإما استنباطاً منه، وإما أخذاً من التجربة,, والعقل منحة من الله مخلوق محدود,, به تمام الإدراك لما يُطلب منه تجاه ربه اعتقاداً وقولاً وفعلاً، وبه تمام الإدراك لما يتكيَّف به مع الطبيعة، وبه تمام النقص عن تكييف المغيب وما وراأ الظاهرة؛ فهو لا يعلم من حكمة الله وكون الله إلا ما أذن الله له بعلمه,, هذا هو تمرد الكافر الآبق بلسانه، المدحوض بوضعية وجوده,, ولا يخجل من الاعتراف بهذه الحقيقة التي هي عز ورفعة وراحة للمؤمن، وذل وخسة وعذاب للمتمرد ؛ فيجعل ذا الوجود في لمحة من الزمن، المتدرج بين ظلمة الرحم ووحشة القبر ندَّاً لفاطر السماوات والأرض، وبارإِ النفوس، والمتصرف في وضعية الكائنات.
ويصوِّر هذا النذل كامو موقفَ إيفان: بأن خَلق الله غير مقبول عند المتمرد إن كان الشر ضرورياً للخلق الإلهي,, وليس في منطقه إياك نعبد وإياك نستعين ، بل سيفوِّض أمره إلى مبدإ العدالة,, ويصف قبحه الله ربه بالإلاه (3) الغامض تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً؛ ولهذا يشرع إيفان في الهجوم على المسيحية على سنة المتمردين الرومانسيين,, ومن معاتبة قضاإ الله الكوني وهو شبيه بمناحة ملحد في شرقنا العربي هلك منذ سنتين هذا النصُّ الذي ينقله كامو عن إيفان: إذا كان تألم الأطفال مفيداً لاستكمال مجموع الآلام اللازمة للحصول على الحقيقة: فإنني أُأَكِّد سلفاً أن هذه الحقيقة لا تساوي مثل هذا الثمن ,, إن إيفان يرفض العلاقة العميقة التي أوجدتها المسيحية بين الألم والحقيقة,, وأعمق صرخة تندُّ عن إيفان الصرخة التي تفتح أرهب المهاوي تحت أقدام المتمرد، وهي: حتى لو ,, يقول: إن سخطي باقٍ حتى لو كنتُ على خطإٍ ,, ومعنى ذلك أن إيفان لن يقبل أن يدفع ثمن هذه الحقيقة بالشر والألم، وبموت الأبرياإ,, حتى لو كان الله موجوداً، وحتى لو كان اللغز يعطي حقيقة ما، وحتى لو كان الكاهن زوزيم على حق,, إن إيفان يجسِّد رفض الخلاص؛ فالإيمان يؤدي إلى الخلود، ولكنه يفترض قبول اللغز والشر والرضا بالظلم,, من يمنعه تألُّمُ الأطفال من قبول الإيمان فلن ينال الخلود,, وفي مثل هذه الشروط سيرفض إيفان هذه الصفقة حتى لو كان الخلود,, إنه لن يرضى بالعون الرباني إلا إذا كان غير مشروط؛ ولهذا السبب يضع هو نفسه شروطه: المتمرد يريد كل شيإٍ، أو لا يريد أي شيإٍ,, كل ما في الكون من علم لا يساوي دموع الأطفال (5) .
قال أبوعبدالرحمن: هذا مثل تمرد إبليس على ربه مع معرفته به تمام المعرفة,, والفارق أن دافع إبليس الحسد، ودافع رمز كامو إنسانية مصطنعة,, والعلم بعدل الله أو تجويره كما يفعل الكافرون فرع عن العلم بوجوده وقدرته وهيمنته وعلمه وحكمته,, ومن قدرته خلق الجنة والنار، وإحضار أهل السعير دَعَّاً، وما هم عنها بغائبين؛ فمن وقر في قلبه هذا الإيمان انقاد لطاعة ربه تألهاً رغبة وخوفاً، وحباً وشوقاً,, كما أنه يجزم بصدق ربه إذ نفى عن نفسه سبحانه الظلم لعبيده وملكه وخلقه؛ فإذا أوحى إليه إبليس بمعضلة مثل آلام الأطفال لم يعزب عن علمه تذكُّر حكمة ربه التي لو أحيط بها لما خطر هذا الوسواس بالبال، وأنَّى للإنسان الضعيف المحدود أن يحيط بحكمة ذي الكمال المطلق,, ونحن نعلم بيقين بمقتضى إيمان الكمال، وإيمان الربوبية، وإيمان الألوهية أن لله عدلاً وإحساناً في خلقه للأطفال وإيلامهم، وكذلك الحيوان، وكل ذلك بحكمة سابقة، وغاية لا يحيط بها إلا علمه سبحانه,, وإذا رفض كامو أو غيره أحكام التكليف (شروط خالقه) فهو حر مختار في كفره، ولكنه غير حر ولا مختار ولا قادر في الهرب عن ملك ربه، وتنفيذ مقتضى شرط ربه يوم الجزاإ، ولا صبر له على عذاب ربه,, وسيرى يوماً تُبدَّل فيه جلود الكفار، ويتجدد عذابهم، ويتمنون الموت فلا يحصل لهم,, واستبدال الإيمان المنجي المحصِّل للفوز بهذا التمرد الأرعن ليس سوى عبث من يريد إضلال الناس وهو غير صادق مع نفسه فيما يدَّعيه.
قال أبو عبدالرحمن: وتحت عنوان التمرد أورد دوستويفسكي هذا النص من كلام إيفان يُخاطب أخاه أليوشا: لقد كان في نيتي أن أحدثك عن آلام الإنسانية عامةً، ولكنني أحسب أن من الأفضل أن نقتصر على آلام الأطفال وحدهم,, ولئن كانت حجتي ستفقد من ذلك تسعة أعشار دلالتها فإنني أظل أحسب أن هذا أفضل,, لسوف تكون المناقشة أقل مواتاةً لي بطبيعة الحال، ولكن الأطفال يمتازون على الأقل بأن المرأ يستطيع أن يحبهم من قرب مهما تكن وساختهم ودمامتهم (وإن كنت أعتقد أن وجه طفلٍ لا يمكن أبداً أن يكون دميماً)، ثم إنني لا أحب أن أتكلم عن الكبار,, لا لأنهم يبعثون على الاشمئزاز ولا يستحقون الحب فحسب، بل لأنهم يتمتعون من جهة أخرى بتعويض؛ فهم قد أكلوا تفاحة شجرة المعرفة، وأصبحوا شبيهين بالآلهة (6) ، وما يزالون يأكلون منها,, أما الأطفال فإنهم لما يذوقوا تلك الثمرة؛ فبراأتهم (7) ما تزال سليمة لم يمسسها سوأُ,, هل تحب الأطفال يا أليوشا؟,, أحسب أنني أعلم أنك تحبهم، ولسوف تفهم إذن لماذا؟,, لن أحدثك إلا عنهم,, إذا اتفق للأطفال أن يتألموا ألماً قاسياً في هذا العالم فذلك لا يمكن إلا أن يكون بذنب آبائهم الذين أكلوا التفاحة، ومن أجل أن يكفَّروا عن تلك الخطيأَة (8) ,, إلا ان هذا فهم ليس من هذا العالم، وسيظل قلب الإنسان على هذه الأرض عاجزاً عن إدراكه,, إن من الظلم أن يُعذَّب أبرياأُ أبرياأُ إلى هذه الدرجة من البراأة ؛ لذنب اقترفه غيرهم (9) ,, أنا أيضاً أحب الأطفال كثيراً يا أليوشا,, تخيل هذا,, سجَّل هذا!,, إن القساة الضواري أصحاب الأهواإِ الجامحة من أمثال آل كارامازوف كثيراً ما يحبون الأطفال؛ فالأطفال يختلفون عن الكبار اختلافاً عظيماً ما ظلوا صغاراً لما يتجاوزوا السابعة من أعمارهم حتى لكأنهم ينتمون إلى نوع آخر؛ لأن طبيعتهم ليست كطبيعتنا,, إنني أعرف حالة لص من اللصوص كان سجيناً في أحد السجون,, لقد اتفق لهذا اللص أثنااً حياته أن قتل أُسراً بكاملها في المنازل التي تسلل إليها ليلاً ليسرقها؛ فلم يوفر الأطفال، ومع ذلك استبدت بهذا الرجل أثناأَ وجوده في السجن عاطفة قوية نحو الصغار؛ فكان يقضي وقته ناظراً من خلال الكوَّة إلى الصَّبية يلهون ويتسلون في ساحة السجن، واستطاع أخيراً أن يكسب مودة واحد منهم؛ فكان هذا يجيأُ (10) يتحدث معه بغير تخلف واقفاً تحت الكوة,, لاشك في أنك تتساأل (11) يا أليوشا لماذا أقص عليك هذا كله؟,, إن بي صداعاً، وهأنذا أشعر بحزن شديد على حين فجأة (12) .
ويقول إيفان: أعتقد أنه إذا لم يكن الشيطان موجوداً، وإذا كان الإنسان قد خلقه: فلاشك في أن الإنسان قد خلقه على صورته هو.
أليوشا: كما خلق الله إذن؟.
إيفان: إنك تجيد قلب الألفاظ كما يقول بولونيوس في هملت (13) .
قال أبوعبدالرحمن: ها هنا سبع وقفات:
الوقفة الأولى: إن صدق هذا النذل إيفان الرمز، أوكامو المتقنِّع بأنه يحب الأطفال لبراأتهم: فهذا اعتراف ضمني بأنه طرأ في حياة ما بعد الطفولة ما يستحق به الإنسان درجات ما بين اللوم إلى العقاب,, وما ذلك الاستحقاق إلا عن مخالفة عهد الله الشرعي.
الوقفة الثانية: الأكل من تفاحة شجرة المعرفة تحوير من أهل الكتاب لأكل آدم عليه السلام من الشجرة، وهو ذنب غفره الله لعبده ورسوله النبي الكريم آدم عليه السلام، ولم يُحِّمل ذريته شيأً منه في أحكام ديانتهم,, وهكذا يكون التحوير والتبديل والتحريف والإضافة في دعوة تكفير الأطفال عن خطِيأة لم يفعلوها,, وهي خطِيأة ما سموه بالأكل من تفاحة شجرة المعرفة!!
الوقفة الثالثة: أن ما رتبه النذل على هذا التكفير باطل؛ لأن ما بُني على الباطل فهو باطل.
الوقفة الرابعة: لا ننكر تصرف الله في ملكه وخلقه بآلام الحيوان والأطفال، وإفناإ الخلق، وإنما نرفض أن يسمى ذلك عذاباً عن غير استحقاق؛ لأن صحة التسمية شرط لصحة الحكم,, بل ما كان عذاباً فهو عن استحقاق حسب المقايضة التي أسلفتها، وما كان ابتلاأً بالآلام للمكلف فحكمه أيضاً حكم المقايضة تلك، وما كان إفناأً وآلاماً لغير مكلف فهو منتهى العدل والحكمة؛ لأن رضا هذه المخلوقات عن خالقها، وتسبيحها له مطوي في غيب الله، وإنما بلغنا عن الله التسبيح منها، وأنه سبحانه منزَّه عن الظلم؛ فعلمنا يقيناً أن فعله الحكيم مبرَّأٌ من الظلم، وتفسير هذه البراأَة في غيب الله الذي أُمرنا بالإيمان به، وضمانتها ما نصبه الله لنا في الأنفس والآفاق من الدلالة على الغاية والقصد، وما يجده المُأمنون من ألطاف الله في الأزمات، ومما بهرت به البراهين من قدسية الله بالكمال المطلق الذي لا يُفَسَّر وُجود الكون بغيره، ومن قدسيته سبحانه كمال القدرة، والبراأة من الظلم.
الوقفة الخامسة: حصل لنا من المعهود الشرعي يقين عن مصير أطفال المؤمنين، ومن عدا ذلك محل خلاف كثير أطال فيه الإمام ابن عبدالبر وابن قيم الجوزية، وليس في ذلك يقين,, وإنما اليقين أن تصرف الله فيهم عن كمال علم وحكمة يتحقق بهما اليقين بالعدل والإحسان.
الوقفة السادسة: يتلاعب هذا النذل بوثنية أن الله خلق آدم على صورة الله,, لا على صورة آدم نفسه قبل أن يهبط من الجنة، وقبل أن يتناقص حجمه في ذريته,, وذلك بكفر آخر ينكر الواقع المغيَّب عن حسنا بذاته، الموجود بآثاره وهو الشيطان العدو المبين ، ثم بكفر ثالث هو دعوى أن الشيطان من خلق الإنسان,, أي من تخيُّل الإنسان، ثم بكفر رابع وهو أنه تخيَّله على صورته؛ ليصل إلى الكفر الخامس الذي تقشعر منه الأبدان.
الوقفة السابعة: أن هذا كفر مكرَّس في كتاب أدبي لم يصدر عن اعتقاد صادق، وإنما صدر على طريقة الماسون في تضليل البشر حتى يًعِمَّ العفن، فيخرج الميسيا المنتظر، والدولة الدينية العالمية الواحدة.
وقال: لقد اخترت لأمثلتي أطفالاً حتى يكون برهاني أكثر إقناعاً، ولن أقول شيأً عن سائر الدموع الإنسانية التي تتبلل بها الأرض,, إنني أُضيِّق موضوع مناقشتنا عامداً,, ما أنا إلا حشرة صغيرة من الحشرات، وإني لأعترف ذليلاً كل الذل بعجزي عن فهم نظام هذا العالم,, هل يجب أن نؤمن (14) بأن البشر مسؤولون وحدهم عن شرورهم؟,, لقد وُهبت لهم الجنة، ولكنهم آثروا أن ينالوا حريتهم، واختطفوا النار من السماإ وهم يعلمون سلفاَ أنهم بذلك يجلبون لأنفسهم الشقاأَ؛ فلا داعي إذن إلى أن نشفق عليهم ونرثي لحالهم، ولكن عقلي (عقلي المسكين الإقليدسي الأرضي) يُأَكِّد لي على عكس ذلك أن العذاب موجود دون أن يكون هنالك مذنبون، وأن جميع الأفعال الإنسانية ينحدر بعضها من بعض بالضرورة، وأن كل شيإٍ (15) ينقضي آخر الأمر، وأن التوازن يقوم مرة أخرى من تلقاإ نفسه,, ذلك على الأقل وهمٌ أنشأه عقلي الإقليدسي,, أعرف هذا، وأنا لا أقبل أن أحيا في عالم كهذا العالم (16) ,, فيم يهمني أن أعلم أنه ليس هناك مذنبون؟,, إنني في حاجة إلى عدل وإلا دمَّرت نفسي,, وهذا العدل الذي أطالب به أنا لا أريده في لا نهايةٍ لا يمكن الوصول إليها وفي أبدية تفوقني، وإنما أنا أريد أن أراه على هذه الأرض,, أن أراه بعيني,, لقد آمنت، واريد أن أشهد انتصار الحقيقة؛ فإذا كنت ميتاً ساعةَ انتصارها فلأبعث حياً,, لسوف يُسيأُ (17) إليّ كثيراً أن يتحقق هذا المجد للإنسان في غيابي,, هل تألمت أنا من أجل أن أمهِّد الطريق بخطاياي وآلامي لانسجام مقبل لن ينتفع به إلا آخرون؟,, إنني أريد أن ارى الوعلة بعينيَّ مستلقيةً أمام الاسد في هدوإ وسلام، وأن أرى الضحية مرتدةً إلى الحياة تعانق قاتلها,, أريد أن أكون حاضراً حين ينكشف سرُّ هذا العالم للجميع,, إن هذا الانتظار هو القاعدة التي تقوم عليها جميع الأديان، وأنا امرُأُ مُأمِن (18) ، ولكن الأطفال ما ذنب الأطفال؟,, كيف نسوِّغ عذاب الأطفال؟,, تلك مشكلة لا أجد إلى حلها سبيلاً (19) ,, أعود فأقول لك للمرة المئة: إن هناك في هذا العالم مشكلات كثيرة، ولكنني اخترت هذه المشكلة (مشكلة الأطفال)؛ لأنها تتيح لي أن أعبِّر عما يشغل بالي، ويقض مضجعي تعبيراً أوضح,, قل لي: إذا كان على البشر أن يتألموا من أجل أن يمهِّدوا بألمهم للانسجام الكلي: فلماذا يجب أن يتألم الأطفال ايضاً؟,, لماذا حُبس الأطفال في هذه الدائرة؟,, لماذا يجب عليهم هم أيضاً أن يساهموا في الانسجام بعذابهم؟,, ذلك أمر لا سبيل إلى فهمه إطلاقاً (20) ,, ماذا جنوا حتى يُجرُّوا في هذه الزوبعة؟,, قد أُسَلِّم عند الاقتضاإِ بتضامن البشر في الخطيأة، وتضامنهم في التكفير عنها، ولكن الأطفال لم يشاركوا في الخطيأَة، فإن قيل: إنهم يحملون في أجسادهم خطايا آبائهم (21) ، وأنهم متضامنون إذن مع آبائهم في هذه الخطايا: قلت: هذه حقيقة لن تكون من هذا العالم على كل حال، ولا يمكن أن يدركها عقل,,! رُبَّ مازح خبيث يعترض بقوله: إن الطفل سيشتد ساعده، وسيقارف الخطيأة متى حان الوقت,, ولكنني أقول: إن ذلك الصبي الذي ما يزال في الثامنة من عمره لما يشتد ساعده بعد وقد مزقته الكلاب,, آه يا أليوشا هيهات أن يكون في نيتي أن أجدِّف,, إنني أتخيل كيف سيتهلل الكون فرحاً حين ستدوِّي أصوات السماإ والأرض جميعاً منشدة للخالق نشيد الشكر معاً، وحين سيهتف جميع الأحياإ، وجميع من كانوا أحياأ قائلين: أنت على حق يا رب وقد فهمنا طرقك!,, سوف تعانق الأمُّ عندئذ الجلاد الذي أمر الكلاب بتمزيق ابنها، وسوف يقول الثلاثة عندئذ من خلال دموع الحنان: أنت على حق يا رب,, ستنجلي عندئذ جميع الأسرار، وسيكون ذلك اليوم يوم تمجيد المعرفة؛ ولكن ذلك بعينه هو العقدة؛ لأنني لا أقبل هذا الحل للغز، وأنا أسارع إلى اتخاذ إجراآت ما زلتُ في هذا العالم,, قد يحدث يا أليوشا حين أشهد ذلك الانتصار النهائي للحقيقة، وحين أُبعث حياً لأشهد ذلك الانتصار: أن أصيح أنا أيضاً مع الجميع إذ أرى الأم والجلاد والطفل يتعانقون ويتصالحون : أنت على حق يا رب!,, ولكنني لا أريد أن أفعل ذلك، وأحرص على أن أحمي نفسي سلفاً من ذلك الاستسلام؛ ولهذا السبب تراني أتنازل تنازلاً حاسماً عن الانسجام الأعلى,, إن هذا الانسجام لا يعدل في رأيي دمعة واحدة من دموع ذلك الطفل المعذب الذي كان يلطم صدره بقبضتي يديه في مكان موبوإٍ، ويضرع إلى الله الرحيم من خلال دموعه التي لا يكفر عنها شيئأُ (22) ,, نعم ما من انسجام مقبل سيكفِّر عن تلك الدموع، ولا بد من التكفير عنها وإلا فلا يمكن أن يقوم انسجام، ولكن بماذا يمكن التكفير عنها؟,, ما الذي يمكن أن يمحوها؟,, أهو القصاص الذي سينزل بالجاني، فما قيمة هذا القصاص؟,, فيم يهمني هذا القصاص؟,, إنني لا أريده!!,, إنني لا أطالب بتعذيب الجلادين في الجحيم,, إن جهنم لن تغيِّر من الأمر شيأً، ولن تنفي أن الطفل قد عُذِّب,, واين عسى أن يكون الانسجام إذا كان ثمة جحيم؟,, إنني أحب أن أغفر، وأن أصالح,, إنني أتمنى أن لا يبقى في الكون عذاب؛ فإذا كانت دموع الأطفال أمراً لا بد منه ولا غنى عنه لإكمال مقدار الألم الذي سيكون دية للحقيقة فإنني أعلن جازماً: إن الحقيقة لا تستحق أن يُدفع ثمنها باهظاً إلى هذا الحد,, إنني لا أريد أن تصالح الأم الجلاد الذي أمر كلابه بتمزيق جسد ابنها,, ليس من حقها أن تغفر له,, لها أن تتغاضى عن ألمها هي,, عن عذاب الأمِّ العظيم الذي قاسته,, لها أن لا تحد على الجاني إذا شاأت (23) ,, ولكن ليس لها أن تعفو عن التعذيب الذي نال ابنها حتى ولو عفا عنه ابنها؛ فإذا كان الأمر كذلك إذن لم يكن من حق الضحايا أن تغفر؛ فأين أين الانسجام؟,, قل لي: أين الانسجام؟,, هل في الكون فرد يجب عليه ويحق له أن يغفر؟,, إنني لا أريد هذا الانسجام، بل أرفضه حباً بالإنسانية,, إنني أفضل أن تبقى آلام هذا العالم بغير تكفير,, إنني أؤثر (24) ، أن يظل ألمي بغير فدية، وأن يظل استيائي متأججاً بغير ارتواإٍ ولو كنت على خطأ,, إن الثمن المطلوب للانسجام باهظ جداً، وهو فوق ما نطيق أن ندفع من ثمن,, إن بطاقة الدخول غالية مسرفة في الغلإ؛ لذلك أسارع فأردُّ بطاقتي,, إنني أشعر بأن عليَّ أن أردها بأقصى سرعة؛ لأنني إنسان شريف، وذلك ما أفعله, إنني لا أجحد الرب يا أليوشا، وإنما أقتصر على أن أعيد إليه بطاقتي بكثير من الاحترام (25) .
قال ابو عبدالرحمن: هذا هو متمرد دوستويفسكي بتفاصيله التي أجملها كامو، ولي حوله هذه الوقفات:
الوقفة الأولى: حسبك من مراد دوستويفسكي: أنه انتهى بإيفان إلى الجنون، وما ساقه عنه مقدمات جنونه؛ لأنه متمرد على ذاته، وأعز مقوِّم للذات العقل؛ فالتمرد عليه جنون.
الوقفة الثانية: كذب عدو الله في زعمه: أن العذاب موجود دون أن يكون هناك مذنبون، وأن الأفعال الإنسانية ينحدر بعضها من بعض بالضرورة؛ لأن أفعال إبراهيم عليه السلام ليست كأفعال نمرود لعنه الله، ولأن أفعال موسى عليه السلام ليست كأفعال فرعون لعنه الله، ولأن أفعال محمد صلى الله عليه وسلم ليست كأفعال أبي جهل وأبي لهب وأبيِّ بن خلف وكامو ومن اتخذ إيفان رمزاً لعن الله جميعهم؛ فلو كان الانحدار عن قانون واحد لكان الفعل الإنساني واحداً، بل هناك نوازع في السلوك خيِّرة وشرِّيرة، وهناك عقل يميز، وإرادة تحكم، فالذي يقدر على معاقرة الخمر في الحانة صلاة الجمعة يقدر على التبكير للعبادة في المسجد ذلك اليوم,, وإذا تخلفت القدرة تخلف التكليف والمسأولية.
الوقفة الثالثة: اشتراط هذا المتمرد الأرعن أن يرى غيب الله على الأرض اشتراط من ليست له أهلية هذا الشرط، وهو تخلف النِّدِّية الخاسِأة.
الوقفة الرابعة: يملك هذا النذل تحصيل الحبور بإعمال ما يملكه من قدرة في ترجيح السلوك الموصِّل اعتقاداً وقولاً وفعلاً، ولكنه اشترى النقيض باختياره.
الوقفة الخامسة: هذه المناحة الجنونية عن انسجام مقبل لا ينتفع به إلا آخرون: خروج صارخ على معقولية المقايضة التي أسلفتها.
الوقفة السادسة: تعجُّل هذا الآثم بطلب غيب الله في الموافاة هو نفسه تعجل الكفرة بطلب عذاب الله من أنبياإ الله عليهم السلام على وجه الإنكار,, وهو تحامق غبي في المقارنة بين لحظات الابتلاإ العابرة والأزمان السرمدية، ومقارنة لحلم الله سبحانه وحكمه وحكمته وعلمه بطيش ورعونة وجهل هذا المتمرد الآبق تعالى الله عن وساوس الظنون.
الوقفة السابعة: نعم: إن الانتظار هو القاعدة في الأديان وأنف المتمرد راغم، وهو الطبيعي المعقول في دين يقوم على الإيمان بالغيب، وعظم البون بين الأداإ والجزإ.
الوقفة الثامنة: ليملأ هذا المتمرد فمه العفِنَ بما شاأ من تجوير: فهل سيغير شيأً من واقع الكون، وهل سيرد شيأً من نتائج البراهين عن العدل اليقيني والإحسان المنتظر في الموافاة؟!.
الوقفة التاسعة: ما كان يحق لي أن أبسط هذا الكفر الذي تقشعر منه الأبدان لولا أنه أعظم تأثيراً من الكتاب المدرسي في روايات عالمية يُعَيَّر بالتخلف في شبابنا بالذات من لم تكن من ثقافته ومصادره.
الوقفة العاشرة: تجاهل المتمرد حقائق الأديان في القصاص من الجاني، وأنه أمر زائد على ما يتعلق بالمجنيِّ عليه الذي كانت الجناية عليه عقاباً أو ابتلاأً ينال اجره.
الوقفة الحادية عشرة: ليس في واقع قدرة المتمرد الأرعن أي منطق لما سماه بإعادة البطاقة، وإنما البطاقة ما يكتبه الملكان الرقيبان حتى يجد المتمرد ما عمل حاضراً ولا يظلم ربك أحداً والله المستعان.
* * *
الحواشي:
(1) هذا هو الرسم المختار لدي؛ لأنه لا مسوِّغ لمعارضة أصل رسم الهمزة وألفها بوضع رأسها فقط وسط السطر.
(2) انظر التعليقة رقم 1.
(3) الرسم المعتاد هكذا: بالإله فإن طاوعتهم الطباعة وضعوا مدة صغيرة بين اللام والهاء,, وما أثبت هو الصحيح الراجح,
(4) المعتاد رسمها هكذا أؤكد أعطوها حركة ما قبلها؛ فرسموها على الواو,, والصحيح الراجح إعطاأُها حركتها هي، والاحتفاظ بصورتها من غير تغيير.
(5) المتمرد ص 73 74.
(6) هذا هو الكفر اليهودي بعينه، وهو يصف الله جل جلاله بالإنسان الكبير، ويصف الإنسان بالإلاه الصغير,, وكل تجمع سري للعبث بالعقول فعن اليهود قبل وبعد أن اصبحت الديانة اليهودية ديناً وضعياً شِرِّيراً بحتاً اسمه الصهيونية السياسية.
(7) انظر التعليقة رقم 1.
(8) أختار هذا على الرسم المعتاد الخطيئة؛ لأن الحركة للهمزة، ولا مسوِّغ لتغيير صورتها.
(9) ما قال هذا إلا أهل الأديان المبدلة, بل الحكمة العادلة، والغاية الحسنة التي لا نعلم كنهها هي مقتضى حكمة الله وعدله ورحمته وإحسانه.
(10) أختار هذا الرسم على الرسم المعتاد يجيىء؛ لأن الحركة للهمزة، ولا مسوِّغ لتغيير صورتها.
(11) انظر التعليقة رقم (1).
(12) الإخوة كارامازوف 17/57 58 ترجمة الدكتور سامي الدروبي ضمن الأعمال الأدبية الكاملة، وانظر تعريب حاسبيني 2/358 359.
(13) المصدر السابق 17/59 س، و2/360 ن.
(14) هذا هو الرسم المعتاد، والصحيح الراجح نُأمِن؛ حفاظا على أصل الحرف ومراعاة لحركته هو.
(15) الرسم المعتاد رسمها فوق ياء واحدة هكذا شيء، أو بعد الياء,, وكل ذلك خطأ,, ولو رسمت على نبرة ثانية هكذا شيىء لكان هذا صحيحاً؛ لأنها مكسورة في هذا السياق,, وما أثبته أصح وأرجح؛ لأن الحركة لها، ولأن الأصل الاحتفاظ بصورتها.
(16) إذن فليخلق عالماً آخر ليحيا فيه,, ولكن كاتب هذا الرمز، والمستشهد به هلكا بحتمية الأجل على الرغم منهما غير مأسوف عليهما، وسيحضران بموقف الجزاإ على الرغم منهما أيضاً، وإن كان في قضاإ الله أنهما من أهل النار فسيدُعَّان إليها دعَّاً ولا مهرب لهما.
(17) أختارهذا الرسم على الرسم المعتاد يسيىء؛ لأن الحركة للهمزة، ولا مسوِّغ لتغيير صورتها.
(18) أختار هذا الرسم على الرسم المعتاد امرؤ؛ لأن الحركة للهمزة، ولا مسوِّغ لتغيير صورتها، وهكذا مُأمِن.
(19) لأن المجنون الجبان لا يحيط بحكمة ربه، ولم ينتفع بعقله في الإيمان بكمالٍ العدل فرع عنه.
(20) لأنه لا يحيط علماً بالحكمة والغاية في القصد والتدبير إلا الخالق المدبر سبحانه.
(21) ترجح هذا الرسم المعتاد لاجتماع علتين: توالي ألفين، وفصل حروف الكلمة لو رجعنا إلى الأصل هكذا آباإهم.
(22) انظر التعليقة رقم (14).
(23) انظر التعليقة رقم (1).
(24) هذا هو الرسم المعتاد، والصحيح الراجح: أُأثر.
(25) المصدر السابق 17/69 72 س، و2/367 369ن,, وكان قبل ذلك سرد قصصاً عن تعذيب الأطفال.
|
|
|
|
|