| شرفات
عاش فروست ما يقرب من أربعين عاماً مغموراً قليل الشأن، يبحث عن صوته,, يبحث عن معنى يقوله للآخرين، فهو لا يكتب شعراً من كلمات وإنما من دم التجارب، حيث عمل هو الفتى يتيم الأب عامل حصاد وصبياً في مصنع أحذية، ثم في مصنع نسيج,, كان قلقاً لا يعرف الاستقرار، يؤمن أن الكتب ليست وحدها طريق المعرفة ، لذلك لم يستطع أن ينتظم فترات طويلة في الدراسة، فبعد ثلاثة أشهر فحسب ترك جامعة دارتموث وقرر أن يعمل مدرساً بدلاً من والدته في نفس المدرسة.
في تلك الفترة احترف الصحافة، كما حاول أن يحترف إلقاء شعر شكسبير في قاعات المحاضرات ولكنه لم يوفق إذ فشل في التأثير في الجمهور بإلقائه، ثم ما لبث أن هجر التدريس أيضاً وقرر أن يعود إلى أحب الأعمال إلى قلبه,, إلى أعمال الفلاحة والزراعة كفلاح عادي من نيو إنجلند، ولم يخطر في باله على الإطلاق انه سيقول الشعر.
ربما كان يقول بعض القصائد والمقطوعات وهو يسلي نفسه في المزرعة، لكن بصورة غير منتظمة شأنه في كل تصرفاته في تلك الفترة المضطربة من حياته، فقد نشرت له مجلة إندبندانت قصيدة بعنوان فراشتي ومنحته مكافأة خمسة عشر دولاراً، رغم ذلك لم ينشر خلال مايزيد عن عشر سنوات سوى بضع قصائد قليلة, وكان شعره يبدو غريباً ومختلفاً عن الشعر الغنائي السائد,, يتساءل الجمهور مَن هذا الشاعر الذي لا يصف جمال المحبوب ولا يصور مشاعر الحب؟ لأن فروست كان يهوى تصوير ريف نيوإنجلند بهدوئه وقذارته وألوانه الحارة الصادقة,في عامه الواحد والعشرين أحس فروست أن السن قد تقدمت به وأن الفوضى ما زالت هي طابع حياته، فشرع يعيد تنظيمها واقترن بزميلته في المدرسة الثانوية، وقرر أن ينتظم في الدراسة من جديد فالتحق بجامعة هارفارد لدراسة الفلسفة وعلم النفس, وأبداً لم يستطع أن يكبح جماح قلقه أكثر من عامين، قنع بعدهما بأن الدراسة في الجامعة لا تستحق كل هذا العناء!! فهجرها ليعود إلى الزراعة حرفته المفضلة,أنجبت زوجته ستة أطفال في خمس سنوات، فشعر فروست أن دخله من الزراعة لم يعد يكفي نفقات الأولاد المتزايدة ، فعاد مرغماً يعمل بالتدريس في نيوهمبشاير بجانب الزراعة, حياة هادئة رتيبة تفترس حياته, مجرد مدرس مجهول في الأقاليم، وسبعة أفواه تنتظر دائماً أوبته بالطعام والكساء.
قد يعزي نفسه بين الحين والآخر بنظم قصيدة يظل شهوراً طوالاً ينتظر نشرها في إحدى الصحف المغمورة، لكنه ما لبث أن ضاق بحياته الرتيبة الراكدة، وخشي أن يظل عبداً لها, ثمة شيء في أعماقه يعذبه ويلح عليه، ويجعله لا يشعر بالرضا عن التدريس والزراعة، يحس في قلبه بركاناً من المشاعر يريد أن يثور ويملأ الدنيا نغمات حادة شجية, ثم إن الزراعة التي يحبها لم تعد تغل شيئاً، فقد شح الرزق وأحس أنه يزرع الصخر,, فلماذا لا يجرب الحياة في مكان آخر؟
إذا كانت بلاده لا تريد أن تتيح له فرصة رفع صوته بالغناء والتعبير عن مكنونات قلبه، فبلاد الله واسعة ترحب بأمثاله من الطيور المغردة:
لست أرى هزيمة للطبيعة
من سقوط شجرة من أشجارها
وكذلك لا أرى هزيمة في انسحابي
استعداداً لهجمة أخرى
باع فروست أرضه عام 1912م ورحل إلى انجلترا، ومعه زوجته وأبناؤه الأربعة الباقون على قيد الحياة، وهناك استطاع أن ينشر ديوانه الأول وصية غلام , وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، وأعجب النقاد بغنائيته البيسطة وقاموسه السهل ورقة ملاحظته، إنه يقدر باستخدام لغة يومية مألوفة أن ينفذ بعمق إلى أغوار النفس,تنشب الحرب العالمية الأولى وفروست لا يزال في انجلترا، يفكر جدياً أن يتطوع في الحرب رغم أنه تجاوز الأربعين ويعاني صراعاً نفسياً سجله في قصيدته الطريق الحر وبعد زفرة عميقة قرر أن يعود مرة أخرى إلى وطنه رغم ظروف الحرب,عاش عمره لم يستقر أبداً في مكان,, لم يستقر أبداً في عمل أو دراسة,, ورغم صدور ديوانين له في الغربة وما تحقق من شهرة كان أول شيء فعله في الوطن أن بحث عن فأ سه القديم واشترى مزرعة جديدة,, تارة في همبشاير وتارة في شافتسبري، لأن الزراعة عشقه الأول وإن لم تعد تدر ربحاً, وبجانبها عاد مرة أخرى يلقي أشعار شكسبير متجاوزاً فشله القديم بشحذ الهمة، فصار من أشهر من يلقي الأشعار ، بل أصبح حضوره في الندوات ظاهرة يقول عنها الناقد جون تشيادري: إنه من أنجح مواجهى الجماهير في عصرنا، ولديه ما يسمى بموهبة الحضور المسرحي, لقد استمعت إليه أكثر من ثمانين مرة، وفي كل مرة كنت أجد متعة لا حد لها,أخيراً أتى المجد وبدت دواوينه المتتالية كأنها ضربة منجل تحصد الجوائز، فكان الشاعر الأمريكي الوحيد الذي حصل على جائزة بوليتزر خمس مرات,, وفي عام 1950م قرر الكونجرس تدريس شعره في جميع المدارس,وفي حفل لتكريم الرئيس الأشهر جون كيندي كان فروست شاعر الحفل يلقي إحدى قصائده باعتباره شاعر الشعب الأمريكي، دون خطابة أو ادعاء، لأنه يعتقد دائماً أن أي شيء أكثر من الحقيقة يبدو ضعيفاً متهافتاً, وربما لأنه فلاح تلبسته روح شاعر، لايزال وفياً لريف نيوإنجلند، للنبات والصخور والتلال، يطيل الوقوف كشاعر العرب قديماً عند جدار منهار أو كوخ مهجور,, كما يقف بالفأس والمنجل أحب أداتين إلى قلبه بعد القلم ضد زحف الصناعة بقيمها المادية اللعينة، والتي صنعت كثيراً من المشوهين والمسحوقين, إنه فلاح أصيل يكتب شعراً يحيي به فأسه ومنجله ويتباكى على التقاليد الزراعية البسيطة,, يتباكى في عزة نفس وصمود شاعر أصيل:
في هذه الغابات الكثيفة وحدها
يمكن أن يجدني العالم ثابتاً
لم أتغير عما عرفني
وإن أصبحت أكثر ثقة بما أعتقد أنه الحق .
|
|
|
|
|