| الثقافية
من أين تأتي الموسيقى، في الشعر والى الشعر، من الداخل ام من الخارج، وهل هي اطار خارجي وكساء تلبسه الألفاظ والتراكيب لتصبح شعراً، أم شيء ما,, في الداخل، ومن أي داخل، من الشكل ام من المضمون أم من العلاقات الصوتية للألفاظ ومخارجها وحروفها ونهاياتها وأجراسها وما يمليه طريقها الذي تسلكه من وقفات؟ الموسيقى الجديدة في الشعر الجديد، لم تعد نابعة من اي شيء من الاشياء التي ذكرتها بذاته ومنفردا، ولا منها مجتمعة، ولا من اتحاد بعضها.
موسيقى الشعر الجديد، موسيقى جديدة، لإنسان جديد، لم يعد يهمه في الشعر الايقاع او الموسيقى الخارجية الوزن والقافية ، ولا الايقاع الداخلي الشكلي ، بل اصبح ما يهمه ويمتعه ويستهويه ويطربه إيقاع وموسيقى أعم وأشمل وأعمق وأكثر اتحاداً مع نفسه وتجاربه وخلجاته وأفكاره وخيالاته، موسيقى أشمل من (الوزن والصور والمعاني والأفكار والأصوات والوقفات) وإيقاع أعمق من أن يكون (موسيقى لفظية وتعبيرية)، بل موسيقى انسانية كونية رؤيوية كاشفة، تكتسب وحدتها من تنويعها وتنويعاتها من وحدتها، مشكلة تجربة جمالية فنية إنسانية وأهم ما فيها انها غير مكتملة، وان الشاعر يترك للقارىء جزءا,, بل أجزاء ليقوم بإكمالها,, اي يسمح لخيال المتلقي بالعمل عبر التخيل لما قد لا يكون الا في الخيال حين يستطيع وضع كل شيء في القصيدة في منطقة بعيدة وغامضة وآسرة ,, هي منطقة اللااحتمال، وحين تغدو القصيدة (تلاحما عضويا بين الشكل المتحرر المتغير والمعنى) في أسفار ورحلات متتابعة الى الحاضر ومنه والى المستقبل والانسان، الى الوحدة، حتى تجاوز الشاعر الجديد الآن نظرة سبق ان طرحت للوصول الى هذه الوحدة,, عبر (الوحدة العضوية، التي هي: تفكير الشاعر طويلا في منهج القصيدة، التفكير في الاثر الذي ينوي إحداثه في القارىء، النظر الى الأجزاء التي تندرج في إحداث هذا الأثر والى الأفكار والصور التي يشتمل عليها كل جزء، النسق الذي ستتحرك ضمنه القصيدة، الأثر المقصود إيصاله، وحدة الطابع، تحديد المتلقي والمتذوق للقصيدة، وترتيب أجزاء الفكر، ونمو الصورة والأخيلة، والوحدة الموضوعية) في مقاربات د, خليل أبو جهجه لهذه المسالة ونقله عن آخرين.
في تطبيق النظرة السابقة الى الوحدة العضوية صنعة وشكليّة وقصديّة من نوع ما، مما يضعف الشعرية ويخلخل الوحدة المراد الوصول اليها والتي تنبثق وتتشكل فجأة ودون تخطيط مسبق، أو,, هكذا يفترض فيها، ليضاف الى مكوناتها الاتحاد العفوي بين مكونات القصيدة (لتغدو القصيدة كشفا رؤيويا للعالم، حاضرا ومستقبلا).
وربما لأن، (الشاعر وحده، قادر على استرجاع تجاربه والتعبير عنها تعبيراً فنيا، بخلاف الانسان العادي) فان الآلية السابقة لم تكتسب الوصفية السابقة الا عند بعض من وصفها من النقاد الذين يطيب لهم وضع كل شيء في اطار من التسلسل المنطقي,, وعبر البرهنة والاستدلال وترتيب المقدمات والاسباب والنتائج، في حين ينجو الشاعر من هذه الاطر ,, تفكيرا وابداعاً ,, حين تكتب تجاربه نفسها الى درجة أن يسأل نفسه بعد كتابتها: هل انا من كتبها وكيف,, وحيث ينسى خبراته ومهارة الصانع فيه وهو يخوض بحار التجريب والمغامرة والمجازفة والاكتشاف والابتكار,, وحين يترك الشاعر الجديد للقارىء الجديد بعض هذه المهمات ليقوم باكمالها,, وبحسب كل قارىء وما يمليه عليه خياله واحلامه وما تسعفه به ثقافته وذائقته وخبراته الجمالية.
هذه التجربة الشعرية التي ادرك الشاعر الجديد فيها ان (رؤيا الشاعر الى حدث يتصل بحقائق الكون والحياة، رؤيا شاملة، كلية متناسقة، متكاملة يرجع فيها الشاعر الى عقله واحاسيسه وميوله، ويبنيها على اساس من اقتناعه الذاتي واخلاصه الفني دون ان يرمي الى مجرد الصياغة اللفظية او مجاراة الآخرين ومحاولة نيل رضاهم، وان الشاعر الحق من اتضحت في نفسه تجربته ثم استقصى كل أجزائها بفكره ورتبها وبوبها قبل ان يفكر بكتابتها، وعناصرها ليست افكارا مبعثرة,, ومفككة,, بل صورة متكاملة متناسقة تتعاون اجزاؤها في التعبير عن حالة احسها الشعر وعاناها وفكر بها، وتظهر في هذه العملية التعبيرية الاحاسيس والانفعالات والأفكار والاخيلة والايقاعات الموسيقية وتتولد هذه العناصر في ذات الشاعر التي تشهد تجربة عميقة من بداية العملية الشعرية حتى نهايتها).
ثم ادرك الشاعر الجديد، ان وضوح رؤياه واستقصاءه لاجزاء تجربته بفكره وترتيبه وتبويبه لها قبل ان يبدأ بكتابتها لم يصدر عن قصدية فكرية او تخطيط مسبق ينتظم المقدمات والاسباب والنتائج ويخضع للمؤثرات اللاشعرية من ارباح وخسائر مادية ومعنوية ولم يندرج ضمن خطة عمل ذات خطوات واهداف وبداية ومراحل ونهاية، حين يفكر بواسطة اشياء كثيرة أهمها: اللغة والصور والايقاعات,, وبكافة العناصر والممكنات التي تحيل الكلام الى شعر واثناء العملية الابداعية، حين تظافر الشاعر مع رؤياه ولغته وطريقة تعبيره وتجاربه الحياتية المعاشة وتجاربه الذاتية النفسية الخاصة وتجاربه وخبراته الفنية، ليُفاجأ أخيرا بشيء لم يخطط له سلفا، ولم تكن هذه الصورة التي تجسدت فنيا بشكل نهائي او غير نهائي في الحسبان.
|
|
|
|
|