| مقـالات
في ظل الإلحاح الغربي على قضايا المرأة والتدخل السافر والمتعالي في عمق قضايا الأمة لردها عن دينها والإبقاء على تخلفها وتبعيتها، وفي أجواء التعالق الأبله من العلمانيين والظلاميين من مدعي التنوير الذين طالبوا بالاستغراب والعلمنة، والأخذ المطلق وغير المشروط بكل معطيات الحضارة الغربية ، مع هذا الطرح المشبوه، ومع حملات التشكيك والإفساد الحاقدة، ومع عقد مؤتمرات الأرض والسكان وفجاجة التوصيات وجورها، ومع استذكار رموز التظليم والتضليل ونبش رفات قاسم أمين ومقولاته وإحياء دعوته بعقد لقاء فكري بعد مرور مائة سنة على تأليفه لكتاب تحرير المرأة ، وإصدار الملفات والدوريات وعقد المؤتمرات، في ظل كل هذه الضجة يكون الحديث عن المرأة حساساً وشاقاً ومحفوفا بالمزالق, والقنات الفضائية ووسائل الإعلام الاستفزازية والفضائحية تتخطف النخب والمفكرين والمغامرين وكبار الشخصيات والمؤثرين لتبتسر منهم كلمة تشد بها عضد التبعيين، وتظفر ولو بمفحص قطاة في بؤر الضوء وشد الانتباه, ولأن المملكة بما وهبها الله من امكانيات متعددة تمثل الثقل الأهم على كل الأصعدة في العالمين العربي والإسلامي، ولأن أخذها بعصم الكوافر مؤذن بتساقط المحتمين بها في القبض على الجمر، فإنها المصدر والمورد لتلك الإثارات ولهذه المساءلات, والتجاوزات والانتهاكات تقرضها ذات اليمين وذات الشمال، لتذرها كالمعلقة ولكن الله وعد بنصر من ينصره، ومن أوفى بعهده من الله؟ ومن ثم فهي في كل يوم تستبشر ببيعها، ولن يضرها من خذلها بالتنصل أو بالمؤاخذة أو خالفها بالخروج عن منهج الله.
في هذا السياق والسباق المحموم تتفلت ألسنة بما تخفي صدورها، فحين يجري الحديث عن الحرية والديمقراطية وحقوق المرأة والإنسان تضرب بالمملكة الأمثال في سبيل الهمز واللمز والسخرية، بادعاء إن الإسلام لا يمنع قيادة المرأة للسيارة وان منع المراة في المملكة من قيادة السيارة وحرمانها من بعض حقوقها إنما هي عادات وتقاليد فرضت نفسها، وليست من الإسلام في شيء.
وفي بعض هذا الكلام حق، وعلى بعضه بعض التحفظات والملاحظات، ونحن نمضي معه إلى حد، بحيث نرى أن هناك عادات ليست من الإسلام في شيء، وهي عادات لم تضعها الدولة، ولم تحمها، ولما يقلع الجهلة من المواطنين عنها، وهي ممارسات مازال العلماء والأدباء والإعلاميون ومناهج التربية يحذرون منها، ويحثون الناس على تجنبها، وقد تكون من نتائج الفهم الخاطئ للقوامة والتفضيل الإسلامي.
والعادات والتقاليد السيئة تسود مجتمعات كثيرة: إسلامية وغير إسلامية عربية وغير عربية, وليست المملكة بدعاً من الأمر، ذلك ما نتفق عليه، غير أن هناك قضايا أخرى يراها البعض من العادات والتقاليد، وهي في الحقيقة من التشريع الإسلامي، والتشريع لا يكون بالضرورة مدعوماً بالنص، فهناك مصادر تشريعية كالقياس والاجماع والاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة، إضافة إلى كل أنظمة الدولة المسلمة المستقاة من مقاصد الشريعة وروحها وهي ملزمة، وذات قوة تشريعية, ولأن المملكة مستهدفة في أمور كثيرة ومحاربة حتى في قضائها الشرعي، ومنظمة حقوق الإنسان تطلق بين الحين والآخر كلمات توحي بانتزاع الحاكمية الإسلامية من بين يديها، فإن المؤمل من كفاءات الوطن ورجالات الدولة وعلمائها وأدبائها أن يكونوا ردءاً لهم حتى وإن كانت لهم آراء يختلفون فيها مع المؤسسات التشريعية، فيما مجاله الاجتهاد والتغليب، ولن أناقش في هذه الإضافة إلا موضوعاً واحداً، وهو المرأة وقيادة السيارة .
ومما لا مراء فيه أن لإسلام لا يمنع بالنص ولا بالتنصيص من أن تقود المرأة السيارة، وما أحد من علماء الأمة قال بهذا، ولو قال لطلب منه البرهان ولا برهان, ولأنالسيارة وقيادتها وما يتعلق بها من أحكام وما تسببه من جنايات من النوازل التي جدت على المسلمين، وليس بين يدي العلماء نص صريح في المنع يعولون عليه، فإن الأمر في مثل هذه الحالة مفوض إلى ولي الأمر الذي يستمد أنظمته وتعليماته من الشريعة مستعيناً بالفقهاء والعلماء ممن يملكون أهلية الاجتهاد، وهم أهل الحل والعقد، وطاعته فيما يتوصل إليه اجتهاد العلماء وما يقره من ذلك الاجتهاد واجبة، ومن مقتضيات البيعة الشرعية طاعة ولي الأمر في المنشط والمكره والأخذ برأي الجماعة وعدم الخروج على شيء من ذلك، وليس من حرية الرأي والتعبير ما يؤدي إلى مخالفة الجماعة، ويد الله مع الجماعة، وولي الأمر من واجبه أن يتداول حكم النوازل مع العلماء، وعلى العلماء أن ينظروا في الأمر من حيث المضار والمنافع، فإذا غلبت المنافع على المضار أباحوه، وإذا غلبت المضار على المنافع منعوه، كما يجب على العلماء تحامي الانفراد بالفتوى الملزمة والمصير إلى الاجتهاد الجماعي المؤسساتي لوقاية الأمة من التنازع وضياع هيبة السلطان واحترام العلماء، والأنظمة والتعليمات على هذه الشاكلة ملزمة، وإذا أصدر ولي الأمر منعاً بشيء أخذ حكم التحريم، وإذا أصدر ترخيصاً بشيء أخذ حكم المباح، شريطة ألا يكون في أمره ومنعه مخالفة صريحة لنص قطعي الدلالة والثبوت ، أو لما هو معلوم من الدين بالضرورة، أو لما يترتب على حكمه إضرار بمصلحة المسلمين، والقاعدة الشرعية: ألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وطاعة ولي الأمر من متممات البيعة الشرعية وواجب الأدباء والمفكرين معرفة ذلك، وإذا اقتضت المصلحة مراجعة أي إجراء، فالواجب فعل ذلك عبر القنوات المشروعة، دون النيل من المؤسسات التشريعية والتنفيذية، وولي الأمر بوصفه فرداً لا يعود عليه المنع ولا الإباحة بالنفع أو بالضرر الشخصي، وهو يستوحي قراراته التشريعية من الكتاب والسنة، ولا يتخذ قراره ارتجالاً ولا مجازفة، ولو أن فقهاء الأمة أجازوا قيادة المرأة للسيارة، فإن ولي الأمر سيبادر إلى قبوله وتنفيذه، وإذا أراد أحد أن تيساءل حول مشروعية الأنظمة والتعليمات والأوامر فإن هذا حق مشروع، ولكن يجب ألا يكون التساؤل متصوراً الخطأ المحض والصواب المحض، بل يكون تحت إمكانية تعدد الخيارات، ثم يجب ألا يكال الذم والاتهام لأي جهة عند تبادل الآراء وتداول الرغبات، فالدولة اليوم دولة مؤسسات وفرق عمل، قراراتها ليست مرتجلة ولا فردية, وفي الوقت ذاته لا يجوز التخندق مع المغرضين ودعاة العلمانية والتنويرية، ممن يرون أن تطبيق الشريعة يحول دون التقدم، تأسياً بالتنويريين المسحيين الذين أرسوا قواعد العلمانية الشاملة.
ومنع المرأة من قيادة السيارة لا يمس حقها، ولا يغض من مكانتها، ولا نعكس أثره على مصالح الأمة، ولا يترتب عليه تقدم أو تخلف، ولا يكون سبباً في تعويق أي مشروع حضاري, وقد نظر فيه فقهاء الأمة من باب درء المفاسد، لأن القاعدة الفقهية تقدم درء المفاسد على جلب المصالح, ذلك رأيهم الذي رأوه واختيارهم الذي اختاروه، وهم صادقون ناصحون مخلصون حريصون على التماس الحق وتحقيق المصلحة, والمؤكد أن قيادة المرأة للسيارة فيه جلب لمصالح، ولكنها لا تدرء المفاسد, والفقهاء لا يقصدون بفتاوهم التضييق على الناس، ولا يريدون من وراء ذلك إلا مصالح المسلمين وصيانة أعراضهم وكف الأذى عن نسائهم، والحكم بالمنع ناتج اجتهاد موفق وتغليب ناصح، وليس ناتج نص قطعي الدلالة والثبوت، ومن ثم فإن من المتوقع أن تختلف الأحكام باختلاف الظروف والأحوال، وعلماؤنا يعرفون أن في منع المرأة من قيادة السيارة مزيداً من التكاليف يتحملها الزوج والأخ والأب، وأن منعها من قيادة السيارة مدعاة لجلب السائقين الأجانب بالآلاف من الخارج، وأن هناك مفاسد من هؤلاء، وهم على بينة من ذلك وعلى علم، ولهم اتصالاتهم وتواصلهم مع رجال الأمن ومع كبار المسؤولين، وليسوا في معزل عما يجري في البلاد من مشاكل، وليسوا في معزل عن فقه الواقع القائم على التقدير والتوقيت ومراعاة الأحوال، ولكنهم مع هذا يرون والرأي الصائب معهم أن هذه الأضرار وتلك المشاكل الناتجة عن المنع أقل بكثير مما لو سمح للمرأة بقيادة السيارة، والحكم الذي أصدروه وتبنته الدولة ليس نهائياً، لأنه لا ينص على التحريم، وإنما يقوم على المنع، ومن ثم فقد يبدوا لهم بعد أمة أن الرأي الآخر هو الأصوب، ويجب على الأمة المسلمة التي وضعت في رقبتها البيعة أن تتحمل تبعاتها، وأن تتفهم مقتضياتها، وأن تحترم علماء الأمة ولا تجعلهم عرضة للنيل والتجهيل، وما أحد منهم قصر في حكم وما منهم أحد على خطأ، وهم في النهاية بشر عرضة للخطأ، وعند المراجعة لابد من تبادل الثقة والاحترام، إذ لا تصلح أمور الناس بالفوضى والتجرؤ على الفتيا، وما دمنا رضينا بالحاكمية الإسلامية، فإن علينا أن نتقبل كل متطلباتها، فالجنة محفوفة بالمكاره، والنار محفوفة بالشهوات، وليست الحرية أن تفعل ما تريد، كما يتصور البعض ، فالله وحده الفعال لما يريد, أما المسلم فقد أحلت له الطيبات، وحرمت عليه الخبائث، ومنع من الشهوات، وعوض عنها بما هو أغنى وأقنى، وبما هو أهدى وأجدى، والدين متين، وقول الله ثقيل، والإيمان وحده هو الذي يجعل ممارسة الطاعات راحة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: أرحنا يابلال بالصلاة، وهو الذي يقول: أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر, فالإسلام ليس بالتحلي ولا بالتمني، إن له تبعات وتكاليف، وهو ثقيل على من يعبدون الله على حرف ومريح للمؤمنين الصادقين الصابرين على الطاعة، وواجب المسلم أن يتقبل ذلك بصدر رحب، وإذا رابه أمر فليسأل أهل الذكر، فداء العي السؤال, وما دام أن ولي أمر المسلمين غلب المصلحة الأعم على المصلحة العامة، فإن واجب الرعية السمع والطاعة وعدم إثارة الزوابع وتوهين العزائم، فنحن في زمن انتقاض الإسلام عروة عروة، وويل للذين يقترفون سن السيئات، ويتصدون للحق، ويمارسون الاجتهاد وليست لديهم آلياته وشروطه.
ومع تقديري واحترامي للآراء المخالفة، ومع حسن الظن بالأكثرين ممن يخالفون أو يتساءلون، فإن من واجبي أن أعرب عن رؤيتي، وأن أستشرف آراء الآخرين بحثاً عن الحق، فمثل هذه القضايا من الأمور الخلافية، والمسألة تدخل في نطاق التغليب لا أكثر ولا أقل، وإذا غلب ولي الأمر ومعه أهل الحل والعقد جانب المنع لزم الأمة القبول والرضى، وبخاصة في القضايا التي تمس العامة وتختلف فيها الآراء، ولا يكون حسمها إلا بقرار من ولي الأمر، تراعي فيه المقاصد الشرعية ومصالح الرعية، وتحترم فيه المشاعر العامة، ويحقق فيه ولو أدنى حد من المصلحة، وإذا كان ولي الأمر يقرر الحرب والسلام ويحسم القضايا الهامة بقرار يصدره، فلماذا نختلف معه في هذه القضية بالذات، والمصلحة في اجتماع الكلمة ولو على المفضول، واجتماع كلمة الأمة دينياً وفكرياً أنفع للأمة من تتبع الرخص؟.
لقد سمعت كلاماً كثيراً حول المرأة، وقرأت ماهو أكثر، وتابعت ما عقد من مؤتمرات مشبهوة اتهمت فيها بعض المجتمعات بظلم المرأة وطالب فيها البعض بالمساواة المطلقة، وتأكد لي أن في الأمر مكيدة ومكر، ومما هو غائب أو مغيب عن البعض أن المرأة في المملكة بوصفها دولة إسلامية معززة مكرمة تمارس حقوقها: تعليمياً ووظيفياً وتجارياً، ولا يمارس معها إلا منع التبرج والاختلاط والخلوة والخضوع في القول تفادياً لأطماع ذوي العقول المريضة، وفي ذلك احترام لإنسانيتها، إذ لم تعد جسداً لإشباع النزوات، ومن ثم فإنها لاتعمل إلا حيث تقوم الحاجة صيانة لكرامتها وتطهيراً لعفتها، وفي ظل هذا الوضع السوي للمرأة السعودية لا يجوز القول بأن وضعها في المملكة يحتاج إلى تدارك، ولا يجوز أن نشايع القائلين بحرية المرأة أو المتحدثين عن قضاياها في غياب الموقف الإسلامي منها، ولعلنا ندرك مقاصد ما يتداول من كلمات جبانة تعتمد الهمز واللمز والحديث عن التأنيث ونون النسوة والثقافة السائدة وقاسم أمين، وهي أحاديث تتوفر على نافقاء للهروب أو التأويل ساعة المساءلة.
والمؤكد بعد كل ما سبق أن الدولة لم تحرم قيادة السيارة وإنما منعتها، وهناك فرق كبير بين التحريم والمنع، إذ التحريم لا يمكن العدول عنه، بينما المنع مرتبط بأسبابه وعوارضه، والمعروف أن نساء البادية ونساء أصحاب المزارع الكبيرة في المملكة يقدن السيارات في المراعي وداخل المزارع وكذلك زوجات المبتعثين، والعلماء النابهون الناصحون لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم يراعون الأحوال وطبيعة البلاد عند الفتاوى وإصدار الأحكام، ومن الخير للبلاد والعباد هيبة السلطان واحترام العلماء، ولا تجتمع كلمة الأمة إذا أباح كل إنسان لنفسه أن يقطع بصحة رأيه في شؤون الأمة المحسومة من المؤسسات الدستورية والتشريعية والشورية، فهذه المؤسسات من طبعها ألا ترضى الكافة، وإنما ترضي الأغلبية وعلى الاقلية المخالفة انها ارضيت باشياء لم تكن على هوى الاغلبية، إذ الأمة لا يمكن أن تجتمع كلمتها على شيء، وتلك سنة الحياة، صراع مستمر وخلاف متواصل، ولا يزال الناس مختلفين إلا من رحم ربك، وقليل ما هم، ولكن يجب أن نعرف أدبيات الاختلاف ومجالاته، ويجب أن نقف على مكائد الأعداء وتجاوزاتهم وتدخلهم حتى في خصوصيات الأمة وثوابتها، وعلى الأجهزة المعنية أن يرحب صدرها لكل رأي ناصح يملك شرط الاجتهاد، ويستصحب أهمية التوقيت المناسب للقول والتقدير المتكافئ مع الحدث وملابساته ، كما يجب تفهم الأشياء وأخذها في سياقاتها والرفق وحسن الظن بالمخالف إذا كان طالباً للحق مذعنا له متى بان، فإحقاق الحق يتم مع الصفاء والوفاق، ولنا عودة مفصلة حول المرأة بوصفها إشكالية تتنامى قضاياها في ظل المحدثات والروح الانهزامية، والله المسؤول في أن يجري الحق على ألسنتنا وفي عصمتنا من الزلل.
وآخر قولنا: إن ما نقول قابل للرد , وما نطلبه اللطف في التصويب، لا رد النقد، والأمة لن تعيش الحياة السوية إلا بالتناصح.
|
|
|
|
|