| مقـالات
أحياناً تجد نصاً لا يسده منطق أو أن أطرافه متباعدة، نتيجة لتركيبته الفكرية المربكة، فتشعر أن فراغاً يملأ محتوى هذا النص، لأن الكتابة ليست مجرد رغبة في ممارسة هذا الفعل دون أن تكون هناك رؤية حقيقية لممارستها كفعل حضاري يتكرس ويتراكم نتيجة لخبرات مضنية تتواصل كمشروع ينمو ويكبر عبر قراءته وإعادة فحصه جيداً وإرجاع عناصره كما كانت قبل تركيبتها كبنية فكرية أو ثقافية، بمعنى آخر، ممارسة خطاب النقد عليها، ولا شك أن النقد فعل حضاري يحدث إرهاصات التغيير في التجربة الثقافية، أي تجربة، لأن الكتابة في رأينا لا تتم كعمل ثقافي وكخطاب يمارس بناء الشخصية الثقافية والاجتماعية والفردية إلا من خلال جدلية النقد والكتابة، لأنه لا يمكن أن نقول أن هناك فعلاً كتابياً حقيقياً دونما أن تستوعبه حركة نقدية تقرأ معاييره ومقاييسه المعرفية والفلسفية والجمالية والاجتماعية، لأن حقائق الواقع الخارجي لا يمكن اختزالها في خطاب منغلق لا تتأسس قراءته إلا في إطار نرجسي أو أيديولوجي ضيق لا يعكس فيه إلا تركيبته الفردية المنعزلة عن سياقات المثاقفة الحقيقية، فهو بهذا المقياس خطاب ليس له صيرورة ثقافية تعبر عن مراحل اتصاله المعرفية مما يجعله يخضع للتحول والتطور المستمر.
فينبغي الا تكون الكتابة مجرد قنطرة يقصد بها التعبير عن دوافع شخصية بسيطة لا تعكس إلا مستوى التصلب الايديولوجي وبالتالي لا ترمز إلى وعي ثقافي ينزع إلى مراكمة التجربة ثقافيا واجتماعيا، باعتبار أنها فعل ثقافي يبرز الإنسان من خلاله قدرته على اكتشاف ذاته كمنظومة مفاهيمية وكعقد فردية واجتماعية تعكس العلاقة الجدلية، بين هذه الذات، والواقع الخارجي بكل خلجاته، وهي بهذا ليست ممارسة يقصد بها مجرد أبرازها كسلوك فردي لا كقيم جمالية وثقافية يمارسها الإنسان بغرض التعبير عن إنسانيته، فالكتابة هي موقف الإنسان من العقل ومن الوجدان الاجتماعي وقراءة متعددة في قيم الوعي الثقافي والاجتماعي، وهي بهذا اللحاظ تخرج عن كونها حيزا ضيقا يختزل الإنسان فيه الواقع بحقائقه وقيمه وإرهاصاته الاجتماعية والإنسانية، باعتبارها الرهان والأداة الحضارية لمخاطبة الوجدان الإنساني وقراءة مضامينه ومفاهيمه الإنسانية والاجتماعية والفردية، وهي الوسيلة الأكثر فاعلية في ممارسة الوعي والتطور الثقافي والاجتماعي، ولذا يجب تعميق تجربتها وتطوير وسائلها وأدواتها، وهذا لا يتأتى إلا من خلال الاشتغال على نصوصها نقداً وتفكيكا وتفسيرا وتأويلا وإعادة اكتشافها، وانتاجها كبنية معرفية متجددة تعكس مدى تطورها واسهامها في نهضة المجتمع حضاريا.
فلا يمكن أن تستمر التجربة الكتابية وتحقق إنجازاً على المستوى الفردي والاجتماعي أو أن تعبر عن نفسها بشكل جاد، وهي تتوارى بعيداً عن إرهاصات النقد، كأن تنظمر داخل بنية ثقافية مغلقة بحيث لا تتشكل كمادة في النقد المعرفي.
وهناك من يميز بين مادة وأخرى، فيرى أن هناك بعض المساحات الفكرية أو النتاجات الثقافية أو بعض القامات والشخصيات العلمية والثقافية يجب ألا يشملها عمل نقدي يقسو عليها من الناحية العلمية فيعريها أو يجعلها مادة يشتغل عليها ليحدد بعد ذلك مكانتها في السلم الثقافي, وهذه الازدواجية في التعامل مع النصوص والأعمال الأدبية أنما تنم عن عقلية لا زالت لا تعي ضرورات التجديد ومفهوم الثقافة النسبي في فهم التطورات الثقافية والاجتماعية، فعندما نقرأ نصاً نستطيع تحديد مناطق قوته وفراغاته الجمالية والأدبية والأخلاقية شريطة أن يرتبط ذلك باستراتيجية لفهم النص من خلال مسألة الثقافة نفسها بعيداً عن المحسوبيات والاعتبارات الاجتماعية، ولا شك هذا يتطلب ألا تكون الكتابة عملاً متشنجاً، أو ردوداً لا تعكس إلا الرغبة في ممارسة الاستقواء والتعبير عن مناطق الفراغ الحقيقي ومحاولة ملئه بالاشتغال ومن خلال ذريعة النقد بالآخرين والتعريض بهم لا لشيء إلا استرضاءً لنزواتهم والتعبير عن طبيعتهم التي يسمونها حقهم الطبيعي في طريقة التعامل مع النص خارج منهجية النقد الثقافي النزيه.
علي الصباح
|
|
|
|
|