| مقـالات
إن ذلك كله قد ساهم في نقل المفاهيم السيئة عن السلوك الإجرامي وأهداف العقاب من مكانها وزمانها إلى كل مكان وزمان طيلة العصور الثلاثة، وحتى يومنا هذا في بعض المجتمعات,, وليست المفاهيم السيئة في هذا الجانب هي المفاهيم الوحيدة التي انتقلت إلى الأجيال وعمرت كل هذه المدة الطويلة، فهناك مكونات ثقافية أخرى سيئة ظهرت في العصور القديمة وانتقلت إلى الأجيال في كل العصور وتفاعلت مع غيرها لتشكل معوقات للفكر البشري سواء من حيث تطوره أو من حيث التعبير عن ذلك التطور وطرح ثمراته لترقية الوعي ودفع مسيرة الحضارة في كل الاتجاهات لإسعاد البشرية كافة,, وكان من المنطقي أن تكون تلك المكونات الثقافية السيئة قد انتهت بنهاية العصور او الفترات الزمنية التي ظهرت فيها، غير أن الطبيعة البطيئة للتغير الاجتماعي شكلت جسرا بين العصور لنقل المفاهيم أو المكنونات الثقافية السيئة، بالإضافة إلى الركود النوعي في الفكر والذي سيطر على كل المجتمعات خلال العصور القديمة، والانكماش الذي اصاب الفكر الإبداعي والمعرفي خلال العصور الوسطى بسبب طغيان الفكر الإقطاعي والكنسي، في أوروبا خاصة، إذ لم تتمكن المجتمعات الإنسانية وبخاصة في العصور الحديثة كما هو مفترض من عزل تلك المكونات والتخلص منها حتى يخلو المجتمع الإنساني من المعوقات الثقافية، ويتفرغ لتنمية الجوانب الحسنة من إرثه الثقافي وفق ما يكتشفه أويخترعه من علوم.
وعلى الرغم من ذلك جرت محاولات لفصل العصور الحديثة عن العصور السابقة ثقافيا، على اساس أن ما يميز العصر الحديث هو ظهور النظرة العلمانية والعقلانية، ولكن هذا الفاصل الأيديولوجي ليس مقنعا لأن هذه النظرة موجودة بشكل أو بآخر منذ العصور القديمة، وعرفتها مجتمعات شرقية إلى جانب المجتمع الإغريقي والغربي بشكل عام، وبعض المفاهيم المساهمة في نشؤ هذا الاتجاه في أوروبا جاءت من آسيا وكان اختيارها انتقائيا بواسطة عملية تصنيف تضفي عليها صفة الشرعية داخل أوروبا، ثم دمغت فيمابعد بوصفها مفاهيم غربية حديثة وهذا مما يجعل الفصل بين العصور من الناحية الثقافية أمرا بالغ الصعوبة، وربما مستحيلاً، عدا بعض الجيوب الثقافية المعتمدة على التطور التكنولوجي كالفن المرتبط بالتصوير الفوتوغرافي لكنه أمر ظهر في العصور الحديثة بعد أن اعتمد الغرب فاصلا آخر بين العصور الوسطى والعصور الحديثة، وقد كان مفهوم السلوك الإجرامي وأهداف العقاب أحد الجيوب الثقافية التي تأثرت بتطور لا أقول بظهور النظرة العلمية والواقعية في المجتمعات الغربية ابتداء من القرن السادس عشر ثم امتد هذا التأثر، فيما بعد، إلى بعض المجتمعات الأخرى حتى أصبح هذا المفهوم وهذه الأهداف من أهم الميادين والمجالات الإنسانية المتأثرة بالتطور الحضاري في أي مجتمع تمتلك نظمه الأهلية الرسمية نية صادقة في نقل مجتمعها إلى الأفضل على كافة الأصعدة، وتتمتع برؤية واضحة ومعرفة حقيقية (بالشروط) التي حددها ركب البشرية لانتقال أي مجتمع إلى مقدمة مذنب الحضارة، والانضمام إلى قافلة الجنس البشري في سيرها نحو مستقبل أفضل, لذلك لا ينبغي لمجتمع ما أن يرتبط بما عرفته أمة أخرى في الماضي من أنماط عقابية أوحلول، لأن جرائم ومشاكل الحاضر غير جرائم ومشاكل الماضي، والتصرفات التي كانت تعد حلولا في الماضي قد تكون هي مشاكل الحاضر بحكم اختلاف حياة البشر اليوم,, ليس عن حياتهم في العصور القديمة والوسطى فحسب، إنما عن حياتهم قبل قرن أو أقل في كل أنماط ومكونات الحياة لا ,, بله إن الفروق الثقافية ليست بين ثقافة مجتمعين أحدهما عاش في العصور القديمة والآخر في العصور الوسطى أوالحديثة لأن الأمر بديهي في هذه الحالة، وإنما نجد هذه الفروق قائمة بين مجتمعين أو أكثر في عالمنا المعاصر، وعلى سبيل المثال نجد أن الأمر القبيح والمستهجن في (قندهار) قد يشكل لوحة جمالية أو معلماً حضاريا ومثاليا في (باريس) والعكس سوا بسواء، والقياس على ذلك ممكن وفي أماكن كثيرة,, لكن هذه الاختلافات الثقافية بين مجتمعات اليوم تعد اختلافات نوعية إذا ما أخذ في الاعتبار نجاح التوجه العام للبشرية نحو ثقافة أكثر تجانسا، وأعمق انسجاماً مع روح العصر ومتطلبات الرقي الحضاري.
وعلى الرغم من هذا التوجه العام نحو التجانس الثقافي، وعلى الرغم كذلك، من أن حصيلة المجتمعات كافة من البحوث العلمية وما كتب عن السلوك الإجرامي والعقاب ضخمة، إلى درجة أن عشرات من السنين لا تكفي لدراسة كل ما كتب في هدا المجال وفهمه، إلا أن الاختلافات بين العلماء فضلا عن المجتمعات ما تزال قائمة فيما يتعلق بنوعية رد الفعل تجاه الجناة, يضاف إلى ذلك ما حجب من إنتاج فكري ومادي له علاقة مباشرة أوغير مباشرة بالجرمية والعقاب بسبب اهتمام المؤرخين بالقياصرة والأباطرة والإقطاعيين من القادة العسكريين بوصفهم سلطة حاكمة أكثر من اهتمامهم بالفكر وأصحاب الحاجة والمنتجين، فبسبب التركيز على هذه الشريحة الضيقة تكونت طبقة حجبت الكثير من الإنتاج الفكري والمادي، وغيبت كثيراً من المعلومات المتصلة بما يفكر فيه الناس، وما هم عليه او ما هم في حاجة إليه من قيم ونظم وحريات، وما أتوا به من إنتاج فكري ومادي ,, ولم يكن الله تعالى ليترك عباده دون هداية وإرشاد فقد أرسل الرسل بالأديان، لمساعدة البشرية على الإصلاح من حالهم، ولعل اليهودية والنصرانية والإسلام من أكثر الأديان السماوية اتباعا اليوم، فأما كتاب اليهود (التوراة) فإن التحريف المنسوب إلى أحبارها جعل من العصب معرفة ما إذا كانت محتوياتها، ومنها العقوبات القاسيبة الموجودة في أسفارها ناتجة عن التحريف وهو ما نعتقده غالبا أم لا, وأما كتاب النصارى (الإنجيل) فقد جاء فيه كثير من الوصايا الداعية إلى التسامح والرحمة ، لكن ذلك لم يظهر على توقيع العقوبات وتنفيذها عندهم خاصة في العصور الوسطى، أما كتاب المسلمين (القرآن الكريم) فحين بلغت البشرية طورا من حياتها جاء الإسلام الذي اقتضت قدرة الخالق، عز وجل ، أن يكون خاتمة الأديان السماوية فأنزل القرآن الكريم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كتابا جامعا مانعا يحوي كل ما فيه خير البشرية إلى يوم القيامة، وليس غريبا، وهو من عند الله تعالى، أن يسبق العلوم القديمة والحديثة إلى أمور دقيقة جداً، وأن يأتي بحلول لكثير من المشاكل الاجتماعية وأن يبني ، مع السنة المطهرة، فكرا إسلاميا نقيا بغض النظر عما إذا كان العلم الحديث وعلماؤه يرون أن هذا الفكر وهذه الحلول الإسلامية صحيحة أم لا, كما أن الحقب التاريخية، في العصور الوسطى، لم تخل من حركات الفكر والإصلاح، إلا أن القيود الثقافية كانت أقوى، بفضل الدعم الذي كان يقدمه لها القادة الإقطاعيون بالتعاون مع رجال الدين الكهنوت والأحبار والوثنيين، إيمانا منهم بأن الجهل منبع استقرارهم، فكان ذلك بمثابة (وسيلة )لإبطاء حركة الفكر وانكماشه على مدى مئات السنين والقضاءعلى المفكرين وإتلاف الإنتاج العلمي وتوجيه الدين عدا الإسلام نحوتحقيق مصالحهم كطبقة مسيطرة، لذلك فمن المعتقد أن نزعة سياسية قد طغت على الفكر وتدوين العلوم، حتى في فترات من العصر الحديث، فهذا مفكر أوجس خيفة، وذاك ذهب ضحية إصراره على الحقيقة العلمية، وآخر سيس إنتاجه.
كان المجتمع الإغريقي قد آمن بأن السلطة المجردة من كل قيد مفسدة، وحين انتصر البرابرة على الإمبراطورية الرومانية سنة 476 للميلاد انهار القانون لتحل محله الإرادة والمشيئة المطلقة للكنيسة والطبقة الحاكمة، إلى أن ظهرت بوادر جديدة للتفكير العلمي الواقعي في بداية القرن السادس عشر، وكذلك الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر لتعطي أملا للمجتمع الغربي بالخروج من نفقه المظلم، والعيش في ظل ذلك المبدأ الإغريفي، واستغرقت إعادة بلورة هذاالمفهوم وتثبيت كثير من العلوم والمبادئ الإنسانية في المجتمع الغربي ما يقارب أربعة قرون في أحضان التفكير العلمي الواقعي والثورة الفرنسية والأميركية والصناعية، وحين استطاع الإنسان أن يتخلص بقدر يسير من الضغوط التي جعلته يركز في تأريخه على شريحة السلطة، اتجه العلماء إلى إعادة دراسة الماضي ونبش الأرض لاستخراج ما تحتها من آثار، ولقد جاءت النتائج لتدلل على أن التطور الثقافي ارتبط عبر العصور بماسمحت به السلطة من إصلاح اجتماعي واقتصادي، الأمر الذي ولد قناعة لدى المخططين والساسة المستنيرين في العصر الحديث بانه لا خير في مجتمع يتقدم ماديا وتبقى نظمه الاجتماعية في عطن القديم، وتبقى الأفكار والمبادئ والمفاهيم والمعاني تغط في تخلف عميق.
ومن الطبيعي أن يؤدي عدم قدرة الشعوب كافة على التخلص من الضغوط أو القيود الثقافية إلى انتشارها على مستقيم التطور الثقافي الحضاري، ومن هنا برز الصراع بين الثقافات كواحد من اهم العوامل المتسببة في ظهور التعصب، فكانت النزاعات والحروب تحدث من أجل الإقناع بفكرة تطورية أو الدافع عن أخرى، حتى وإن كانت وثنية او طوطمية تضرب بجذورها في أعماق العصور القديمة، وقد ساهم ذلك في زيادة معاناة الإنسان من جرائم أخيه الإنسان، وابتكر الإنسان اساليب انتقامية عقابية غاية في القسوة والخروج على التعاليم الربانية، استمر بعضها في الظهور خلال فترات من العصور الحديثة,,ومع أنه لا يسع العقل إلا أن يبدي إعجابه ببعض ما حققه الفكر الغربي في المجالين الطبيعي والإنساني، غير أن قلة التنويه في بحوثهم بما للحضارة الإسلامية والشرقية من إسهامات فكرية ومادية في تطور الحياة الإنسانية يثير بعض التساؤلات حول التزامهم الأدبي تجاه تلك الإسهامات، ولكنه ليس من الأفضل أن تعزى الوفرة العلمية في الغرب إلى تحيز الباحثين الغربيين لبني جنسهم، أو أنهم لا يراعون الأمانة العلمية إذا كان الموضوع متعلقا بإسهامات الشرقيين، لأن ذلك سيدفع بالفكر إلى أتون التعصب، بل الأفضل أن نبحث عن اسباب أخرى أكثر واقعية: فالفكر الغربي نبع من اليونان ,, نقطة التماس بين العالمين الغربي والشرقي على البحر الأبيض المتوسط، فموقعها هذا جعلها مكانا لالتقاء الحضارتين فامتزجت ديانات الشرق وتأملاتهم ونظرتهم للحياة الدنيا والآخرة بالحكمة والفلسفة اليونانية الغربية، وكان الغربيون أكثر انفعالا بما نتج عن ذلك الامتزاج الثقافي إلى درجة أغنتهم عن البحث في أصول التراث القادم من الشرق، كما أن الغرب لم يتعامل مع الفكر الشرقي بدرجة كبيرة لا من خلال أعمال المستشرقين، وهي أعمال أتت متأخرة، إضافة إلى أنها وظفت لفهم انثروبولوجيا الشعوب الشرقية لتكريس مصالح الاستعمار، وليس من الواضح لدي ما إذا كان عدم لجوء علماء الغرب إلى تقديم المكتشفات والمخترعات في قوالب دينية، قد ساهم في حفز الباحثين على الإنتاج وشجع المستفيدين على الاطلاع، فكثر الإنتاج العلمي وشاع بين مختلف الطوائف والأديان، على اعتبار أنه لو كان العالم الكاثوليكي قدم أويقدم إنتاجه في قالب ديني حسب مذهبه فقد لا يتقبله البروتستانتي أو اليهودي أو الشيوعي أو صاحب أي مذهب أو ديانة أخرى فضلا عن المسلم مثلما هو الحال عندما قدم الإنتاج العلمي مجردا من العواطف وترك للقارئ أمر الحكم على صلة هذا الاكتشاف او الاختراع بمذهب ما، أو بدين من الأديان بشكل عام.
وما ليس هناك بد من الإقرار به دون تبرير، هو أن جزءا من المجتمعات الشرقية وقف يتأمل إنجازات مفكريه السابقين دون مواصلة الجهود اللازمة لجعل هذه الإنجازات على مستوى عالمي، وحين جاء علماء الغرب بمنجزات علمية على أسس شرقية وغربية مشتركة اكتفى أهل الشرق من القول بأيسره، فرددوا أن ذلك موجود في دياناتهم وثقافاتهم منذ القدم، ولا مندوحة يمكن قبولها لمن قال إن الفتن شغلت أهل الشرق عن مواصلة الاكتشافات والاختراعات، فالغرب لم يصل إلى مستواه اليوم إلا بعد أن مر بفتن وحروب أشد فتكا بالإنسان من تلك التي مر بها أهل الشرق, ولعل من أهم أسباب هذا السقوط هو تركيز بعض مفكري وساسة المجتمعات الشرقية على الإنتاج اللفظي، أكثر من تركيزهم على تطوير اساليب الإنتاج العملي، ويدخل في إطار ذلك ما كان يمنح للشعراء والنثريين من هبات قل أن يحصل على مثلها مكتشف أو مخترع أومنظر فلسفي أو تشريعي (تنظيمي)، وما سببه ذلك من تهوين خطير للأهداف الحياتية واتكالية مفرطة في انتظار ما صعب من تلك الأهداف دون بذل الجهود اللازمة لحيازة أسبابها.
|
|
|
|
|