أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 21st July,2000العدد:10185الطبعةالاولـيالجمعة 19 ,ربيع الثاني 1421

تراث الجزيرة

المجالس الشعبية والمضافات قديماً وحديثاً
للتفريق بين المجلس والمضافة والتعريف بهما، وابراز ما لهذا وما لتلك من خصائص ومميزات يحتاج كثير من شبابنا الى معرفة كل واحد منهما.
فالمجلس، هو مجتمع الناس ومنتداهم حيث يلتقون فيه اذ يقوم اكرمهم وليس اغناهم من باب التطوع او ربما جريا على عادة والده او جده بفتح باب بيته ليرتاده الناس ويتبادلون فيه الآراء والاحاديث ورواية الاخبار والاشعار والقصص والحكايات المسلية والمفيدة وذلك قبل ظهور وسائل الاعلام المختلفة من صحافة واذاعة وتلفاز.
وهو في اللغة (مَجلَس) بفتح حرف اللام وهو مكان الجماعة ومنتدى القوم.
وأما المجلس بالكسر فهو موضع الجالس فقط (1) .
قال الشاعر بن حامد من أهل الكهفة من قصيدة طويلة يمدح اهل قصيباء حين مر بهم في بلدتهم قبل ثمانين سنة مضت:


العبد هو والحر كالنمر والذيب
قصيرهم لازم يَعَرش العظام

يصف اسودهم وابيضهم بالشجاعة والكرم وانهما سواسية في المجلس فلا تفاضل ولا تعالي بينهما وقد سبقه شاعر عربي قديم يصف مجلس احد القوم فقال:


لهم مجلس صهب السبال أذلة
سواسية أحرارها وعبيدها

والاصهب ههنا الذي يخالط شعره بياض في شقرة، وقيل: بياض في سواد واما السِّبال فهي اللحى أذلة = الذليل، الذي يتواضع امام جليسه، فيدع له فرصة التحدث إذا جاء دوره فلا يقاطعه او يصد بوجهه عنه.
وتفسير ذلك انهم سواسية في المجلس.
فإن كان المجلس ليلا سمّوه (مجلس سمر) ولا يكون مجلس سمر الا في الليل خصوصا والا فهو مجلس وحسب.
يدخله الناس دون دعوة ويخرجون دون استئذان.
وفي المجلس يتجمع الناس نهارا وعادة ما يبدؤون من بعد صلاة الفجر مباشرة حتى ترتفع الشمس ثم يتفرّقون.
ومجالس تبدأ من بعد صلاة الظهر حتى وجوب أذان صلاة العصر ومن بعد صلاة العشاء حتى العاشرة او الحادية عشرة ليلا.
وفي السنوات الاخيرة ألغيت مجالس الظهر وحل محلها وقت العصر حتى قبيل الغروب، قال الاسمر الجويعان رحمه الله يصف مجلس الصبح:


ياما حلا فنجال بيضٍ بفاديد
عقب صلاة الصبح والوقت ما فات
فنجالهن مشروك بين الاجاويد
مجالسٍ فيهن عن الشر لو ذات

يقصد أنهم اخوة متحابون لا احد منهم يضمر للآخر شرا أو ضغينة.
وكان اجدادنا يرحمهم الله يحبون الالفة والتقارب ويتسابقون الى الكرم وفتح ابواب بيوتهم لمن رغب الدخول معهم، ولكن أغلبهم لا يملك في بيته (الدلة والفنجال والمحماس والنقيرة) ويسمونها (العوامل) فيأوون الى مجلس أحد الكرماء مناهل الحي وهو الذي يملك هذه العوامل رغبة منه في جمع الاحبة والاصحاب (2) .
فالمقتدر يحضر ويحضر معه ما تيسر من حباب القهوة او الهيل وقد وضعها في مخبأة الصدر او صرّها في ردن شماغه ثم ناولها لصاحب المجلس فيحمصها في الحال ثم يدقها ويضعها في الدلة الى ان يحضر آخر ويأتي معه بالمثل وهكذا حتى ينفض مجلسهم,.
أما الذي لا يستطيع ولا يتيّسر له ذلك فيعذر ولا بأس عليه.
كما ان هناك مجالس اخرى تعقد في الاسواق العامة كالساحات واعتاب الدكاكين دون إضرام نار او تناول قهوة يتم من خلالها صفقات بيع وشراء في الخيول والإبل وسائر البضائع الاخرى فإن لم يكن ثمة بيع وشراء تطرقوا الى اخبار عقيل ونشاطهم وتنقلاتهم بين بغداد وبلاد الشام ومصر ومن خسر فيهم؟ ومن ربح؟ ولكن هذه المجالس مختصة بالتجارة وليست مجالس تاريخ وأدب وهي لا تخصنا ولكننا سقناها من باب الاحاطة والعلم.
واما المضافة فلها وضع يختلف عن المجلس وهي المكان الذي اعد لإيواء السابلة والوافدين من سفر ونحوه وذلك قبل حياة الطفرة وانتشار الفنادق والمطاعم فيجدون فيها الطعام والشراب ونزلائها ضيوف وان لم يدعوا مباشرة الى الحضور ولكنه علم مسبقا ان احد الكرماء قد اعد هذه المضافة لعامة الناس المحتاجة بدافع الكرم وحب الذكر الحسن وليكونوا قدوة لغيرهم من الاجيال القادمة,.
والمضافة = المكان المعد للضيوف,, والضيف = من استضافك وأضفته,, والضيفين، نونه زائدة، من حضر برفقة الضيف دون دعوة وليس مهما ان يعقد في المضافة ندوات او حلقات شعرية وادبية كما هي الحال في المجلس حيث ان الوجوه في المجلس معروفة واللقاءات تتكرر كل يوم.
ومن أشهر المضاعفات التي برزت وذاع صيتها في جزيرة العرب على مستوى الأفراد، بداية من منتصف القرن الرابع عشر الهجري مضافة (الشيخ عبدالرحمن البازعي) بالجوف عليه رحمه الله وذلك في العقد السابع من القرن الرابع عشر الهجري وما قبله، فقد فتح ثلاث مضافات في آن واحد، مضافة للحضر,, ومضافة للبدو,, ومضافة لعقيل خاصة يجد فيها الوافد المكان المريح,, والنوم,, والاكل والشرب فازدهرت بلدة الجوف في عهده، وبث فيها روح النشاط والحركة، فلما غادرها الى الرياض، خمدت نارها,, وشلت حركتها، وتحولت الى شبه مكان خال يمر بها المسافر وهو منطلق دون توقف!
قال احد شعراء العقيلات من قصيدة له وكأنه يرثي لحال جماعته والناس الذين كانوا يترددون عليها:


الجوف عقب البازعي تقل خالي
لو فتّحوا فيه الجوا فا الدكاكين
ما كنّ فيه من المخاليق والي
عندي وكلٍّ له محبة وتقنين
يا دار واين اللي يشيل الثقالِ
اللي مقيمٍ بك على العسر واللين
اللي يجنّه من جنوب وشمالِ
قدام بيته للركايب معاطين

أما المضافة الثانية التي وقفت عليها وشاهدتها بنفسي سنة 1383ه فهي مضافة ابو منصور (الشيخ عبدالرحمن المنصور الزامل) بالكويت، والزامل أسرة مشهورة بمدينة عنيزة وان المرء ليقف مذهولا من سعة مبناها,, وكثرة غرفها ,, وتأعدد اسرتها,, وما يقدم فيها من غذاء يحتوي على ثلاث وجبات مع الذبائح تقدّم يوميا لضيوفها وزائريها!وفيها من الطباخين والفراشين عدد غير قليل! وقد أعدت لكافة اهل القصيم الذين يفدون الى الكويت للزيارة او للعلاج وقضاء لوازمهم.
ويرجع تاريخ انشاء المجالس والمضافات الى تاريخ نشأة الانسان نفسه اي: الى عهود متقدمة واول من اشتهر بها العرب قبل غيرهم من الاجناس البشرية الاخرى.
والمقصود من المجالس = المحادثة والاستئناس ورواية الأدب والشعر وأخبار الوقائع وتبادل الافكار والآراء وتقوية الروابط والصلات بين الأفراد.
وقد تلاشت هذه المضافات تدريجيا واما المجالس فلا تزال قائمة حتى يومنا هذا علما بان من يرتادها لا يحسب في حسابه الرفد,, فالقهوة والشاي والحلوى وهو التمر موجودة في بيته ولكنه يأتي حبا في المحادثة والاستئناس.
وفي منطقة القصيم توجد مئات المجالس تفتح ابوابها يوميا امام روادها ومحبيها وصاحب المجلس هو المتكفل بالنفقة دون مشاركة احد من افرادها.
إلا ان اكثرها قد انحرف عن الاصول والقواعد المتعارف عليها قديما حيث دخل عليها التلفاز,, ولعب الورق,, والاحاديث قليلة النفع والفائدة.
واما مجالس كبار السن فهي قليلة ولكنها متمسكة بطابعها الاصيل وعاداتها القديمة.
وانه ليسرني ان اقدم وصفا لهذه المجالس وذلك قبل دخول القرن الخامس عشر الهجري.
يتوافد القوم على المجلس ويدخل الواحد تلو الآخر من باب الشارع المفتوح على آخره فيجد النار مشتعلة بالحطب والوجوه ضاحكة متهللة فيجلس مع الجالسين حلقة على مشب النار (الوجار) ثم يوضع التمر وتدار بعده فناجيل القهوة، يتلوه الشاي المملوء بالزنجبيل فان كان الفصل شتاء فإن للزنجبيل لذة ومتعة لشاربه.
وفي النار دفء وراحة للنفس حين تشم رائحة دخان الحطب خصوصا اذا كان رمث 3 وأما ان كان الفصل صيفا فستصاب بنزف من العرق الكثيف يتصبب من سائر جسمك من شدة حرارة النار وحرارة الزنجبيل! بينما ترى جميع من حولك منشغلين في احاديثهم وكأن هذا العرق ماء بارد جيء به من ثلاجة واريق فوق اجسامهم! وما هي الا اسابيع قلائل اذا داومت وقت على حضور مجلسهم فتصبح واحدا منهم! فإن بدر منك ضيقا أو مللها من شدة حرارة النار وطعم الزنجبيل الحارق او قلت = لماذا هذه النار؟ او = لماذا لا توضع القهوة والشاي في زمزميات (حافظات) بدلا من الدلة والابريق؟ أو = لماذا لا يوضع مكيف هنا؟ فإنك حتما ستعرض نفسك للانتقاد اللاذع والاستهجان همسا او علنا كقولهم = عِشبة غار,, او = زملوق خندق,, او = ثالث خواته وهو الذي لم يغادر بيت اهله.
جاء رجل حديث العهد بالمجالس، الى احد مجالس الكبار وكنت يومها حاضرا، فأبدى ضجره وتململه من شدة الحرارة وحسب العرق فسمعت أحدهم يقول له = قم يا وليدي، ترى ما يصلح لك هذا المكان، رح دور لك على مكيف واجلس تحته.
وإنك لتجد في مجالس هؤلاء الكبار الذين لا يحملون شهادات هندسة أو دكتوراه = العمق وبعد النظرة,, والصدق والوفاء,.
رجال حلبوا أشطر الدهر,, وذاقوا الحلو والمر,.
ونهلوا من الحياة الكدر والصافي فلله درّهم,.
سليمان بن محمد النقيدان
** الحواشي:
(1) ويقولون: مجلس الأمن، ومجلس الشورى، ومجلس المدينة او المحافظة بكسر حرف اللام وهو خطأ شائع والصواب بالفتح,.
(2) وكان العرب الرحل في الصحراء قديما اذا صادف ان بعضهم لا يملك القدر، والفأس، والسكينة والقدّاحة اضطر ان يحل ويرحل بصحبة من يملك هذه الادوات الضرورية,,.
(3) سافر اعرابي الى بلاد العراق من (التسرير) في بلاد نجد، فأصيب بمرض هناك فسألوه = ما تشتهي؟ فتأتي به لك علك تشفى، فتذكر رائحة دخان الرمث فطلب ان كانوا يريدون له شفاء ان يأتوا له بحطب رمث وقال:


إذا يقولون ما يشفيك قلت لهم
دخان رمث من التسرير يشفيني
مما يضم الى عمران حاطبه
من الجُنينة جزل غير موزون


أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved