| مقـالات
لم نعهد فيك هذه القسوة أيتها المدينة الحالمة، لقد عرفنا فيك الحنان، فلماذا قلبت لسكانك ظهر المجن، ووضعتِهم في مقلاة القيظ، بلا هوادة ولا توان، لقد أرسلت الشمس خيوط أشعتها على أحيائك منذ الساعة التاسعة صباحاً وحتى الخامسة عصراً في حرارة لم يعرفها سكان تلك الأحياء منذ زمن طويل، بحيث فرضت عليهم تلك الأشعة الملتهبة الإقامة في البيوت في النهار، وإذا خرج الرجل لعمله فإنه يمرق في شوارعك التي تحولت إلى لظى، إنها الحرارة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، لقد قربت الشمس من الرؤوس، حتى لكأن الرجل يكاد يدفعها بيده، فهو يحس حرارتها قد تغلغلت في جسمه, لقد امتدت الحرارة إلى كل شيء تشتمل عليه المدينة، فالسيارات لم تعد تحتمل حرارتها، والآلات من مبردات وغيرها أصابها الخلل، والحرفيُّون قد أصابهم الإعياء من كثرة الأعباء، فلماذا هذه الغضبة أيتها المدينة؟ هل أثقلك سكانك فأردت الخلاص منهم بالسفر والتنقل! عليك أيتها المدينة أن تتحملي من يقطنك، صيفاً وشتاءً، ربيعاً وخريفاً, إن هذا السموم الذي يلفح الوجوه، وكأنه قد خرج من جهنم لتوه قد أَرسَلَتهُ إليك صحراؤك المجاورة، فهل غضبت الصحراء على مدينة الرياض؟! إننا لم نعهد ذلك منها من قبل، فالحب متبادل بين المدينة وصحرائها، فبالأمس القريب كانت الصحراء تهدي لمدينة الرياض الرياح المحملة برائحة الخزامى والأقحوان، وإذا كان ذلك في الفصول المعتدلة فإن ريح الشمال مقبولة في فصل الصيف، فلماذا تحولت هذه الريح في أيامك هذه إلى سموم لافح! إننا لا نفسر ذلك بغير شيء واحد هو غضبة المدينة, أيتها المدينة الغاضبة: إلى أين يفر سكانك من حرارتك، وإلى أين يذهبون؟ إن خرجوا إلى الصحراء ليلاً أَرسَلَت عليهم ما بقي من رياحها الحارة، وإن لجؤوا إلى المكيفات تصاعدت عليهم الشرائح، وتضاعفت عليهم المبالغ لقد عَقَدتِ صداقة مع شركة الكهرباء، وسكانك ينتظرون العون منك، لا أن تكوني إلباً عليهم مع شركة الكهرباء.
أفي هذا الوقت ضاعفت قسوتك أيتها المدينة، حين دنا قطاف الرطب ولذَّ النظر إلى نخيله التي تحولت ثمارها ما بين صفراء وحمراء، فهي مختلفة الألوان، من أحمر قان، إلى اصفرار في سواد، حين دنا القطاف ضاعفت قسوتك! إن هذه الأيام هي أيام الخَرَاف والقطاف، فالعنب قد دنت عناقيده، والبطيخ قد اختلفت ألوانه، إن أيامكِ هذه لا يتحملها إلا سُلَيك بن السُّلكة الذي كان يروض نفسه على تحمل المشاق، فيسير في الصحراء بدون نعلين، ويعري رأسه من العمامة، فهو صعلوك قد روض نفسه، فمن أين لمدني أن يعيش عيشة صعلوك جاهلي، اعتمد رزقه على الغارة والنهب في قلب القيظ، حيث كان يأتي إلى تلك الصحراء في وقت الشتاء والربيع، فيجمع بيض النعام، ويملؤه ماء، ثم يحفر للبيضة حفرة ويضعها بعناية، ويضع على أعلاها حجرا رقيقا، فإذا هرب من الأعداء واستقبل الصحراء في مثل هذه الأيام اهتدى إلى بيضة من بيضه الذي دفنه في الربيع، فأبعد عنها التراب ثم أخرجها، فوجد ماء عذباً فشرب واستأنف مسيره إلى وجهته التي قصدها, إن هذه الأيام بحق هي أيام سليك بن السلكة, وإذا كان نهار الرياض كما وصفناه، وصحراؤها ليلاً كما أسلفنا، فإن لمدينة الرياض وجهاً ليلياً يبهر الغريب، ويعجب من اصطلى بنهارها، فالمدينة في الليل تبرز وجهها الآخر في أسواقها المكيفة، التي تعج بالحركة والنشاط، حتى إن الرائي لتلك الأسواق الليلية يظن أن المتسوقين يستقبلون عيداً لهم، قد دنت أيامه، فالسيارات تهرع إلى تلك الأسواق بالمئات والآلاف، فالشوارع ملأى بالسيارات المتجهة إلى تلك الأسواق, فتأتي إليها في الساعة الحادية عشرة والزحام فيها على أشده، والتسوق فيها في أعلى ذروة، فهل لجأ المتسوقون إليها لاعتدال الجو، أم إنها العادة التي اعتادها سكان مدينة الرياض في التسوق ليلاً؟ إن الجواب يكون في الأمرين معا، ففي الليل يعتدل الجو نسبياً فيشجع على الخروج، مع ما يجده المتسوق في الأسواق من تكييف يزيل حرارة الجو، مع عدم تحمل تكلفة التكييف, إن سكان مدينة الرياض عندما يستمعون إلى درجات الحرارة في مدن المملكة المذاعة من التلفاز في نشرة أخبار الساعة الثالثة، فيستمعون إلى أن الدرجة الكبرى في الباحة هي ست وعشرون والصغرى ست عشرة، وفي أبها الكبرى ثمان وعشرون والصغرى ثماني عشرة، بينما هي في مدينة الرياض ثمان وأربعون ، عندما يستمعون إلى النشرة يغبطون سكان المدينتين على ما هم فيه من جو بارد ابعدهم عن الحرج مع شركة الكهرباء.
ومع قسوة مدينتنا الرياض في هذه الأيام فإن الحب المتبادل بين السكان ومدينتهم يزيل كل رواسب القسوة، عن طريق الأمل في حلول الخريف ثم الشتاء والربيع!!
|
|
|
|
|