| مقـالات
ولأن الثقافة مكتسب متعدد المصادر، ولأن هذا المكتسب له تأثيره على السلوك وعلى الأداء وعلى الثوابت, فإننا بحاجة إلى أن نتحكم بالنوع وبالوسيلة, إذ من الممكن أن تكون الوسيلة بطيئة أو قليلة الأداء أو مشوبة الأداء, والبطء والقلة والشوائب في حياة محكومة بالزمن، قد تؤدي إلى خسارة فادحة, ذلك أن الإنسان مكتسب: بالعفوية وبالقصدية، وهذا الاكتساب محكوم بالنواقص الثلاثة أو متحرر منها، وحين تكون الوسيلة سريعة وثرية ونقية، يكون المكتسب متفوقا، والتفوق يقوم بالذات أو تقوم به الذات، وهل أحد منا لا ينشد التفوق في الحياة؟.
تفوق في الأشياء.
وتفوق في المعاني.
والإنسان في النهاية مجموعة قيم، وقديماً قال الشاعر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم |
ويؤثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله لأحد جلسائه: تكلم حتى أراك .
وقيل: قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت.
فمدار القيم الإنسانية على المقروء, وأول صلة بين السماء والأرض استهلت بقوله تعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الإنسان من علق, اقرأ وربك الأكرم, الذي علم بالقلم, علم الإنسان ما لم يعلم .
وهناك لطائف تفسيرية، اشار إليها المعاصرون، وهي الأمر بمطلق القراءة، إذ لم يحدد نوع المقروء ولا زمانه ولا كمه، وإنما أطلق وعمم وجاء الأمر بالفعل ذي الحركة المستمرة, وحين أطلقت القراءة من حيث أنواعها، حددت من حيث مقاصدها, فقيل: باسم ربك أي بما هو مرتبط بمقاصد الإسلام, فأنت تقرأ مستحضرا عظمة الخالق ومطالبه، وفي المقابل لا بد من القراءة التي تكفل العيش الكريم، وفي القرآن الكريم ولا تنس نصيبك من الدنيا , قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق , وتوفر العيش الكريم لا يقف عند الشبع والاكتساء، إن هناك قيماً لا تحميها إلا القوة والاستغناء.
وإذا وفرنا الإمكانيات الضامنة للعيش الكريم، وحررنا الوسيلة من كل المآخذ، كان علينا أن نهتم بالنوع المكتسب, ولهذا يقول الشاعر:
إذا غامرت في أمر مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت أمر يسير كطعم الموت في أمر عظيم |
وما دمت ساعيا في طلب تنفق الجهد والوقت والمال، فليكن المطلوب كبيراً.
والشاعر يقول:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام |
إن الحياة مدرسة مفتوحة وتعليم مستمر، متى دقت الملاحظة، ونشط الوعي، وتحفزت الحواس، وكم من أُناس تمر بهم أحداث، فيعيها قوم، ويخسرها آخرون وقديما قيل: العاقل من وعظ بغيره, والسيىء من لم يستفد من تجاربه هو وإخفاقاته هو، وكثير من العلماء قامت آراؤهم وثقافتهم على دقة الملاحظة والوعي، وخير مثال على ذلك (الجاحظ) الذي قامت كتبه أو بعضها على الملاحظة والتأمل.
وحين نعود إلى محوري الحديث: (التقنية والثقافة) تجدهما يمثلان استمراراً وعمقاً تاريخياً، ولكنهما بلا شك من قضايا العصر الأهم والأخطر, وهما مؤشر الحضارة ومكونها، والثقافة المثالية كالمجوهرات، لا بد لها من حرز مثلها، وإلا علمت الآخر السرقة، وهذا ما حصل لحضارة الأمة الإسلامية، فكم من ملايين المخطوطات الإسلامية خارج الوطن الإسلامي، ومعهد المخطوطات رغم جهوده، لم يحصل على الأقل القليل من ثروة الأمة المنهوبة، إننا بحاجة الى تقنية تحمي الثقافة من غزو الإلغاء ومن غزو النهب ومن غزو الإفساد، تقنية تسوِّق، وتحفظ، وتنمي, والأمة التي لا تملك ثقافة تؤكد خصوصيتها وتقنية تتقدم بها إلى المشاهد العالمية محققة الندية وتكافؤ الفرص هي أمة عديمة الجدوى فاقدة للأهلية، والأمة العربية بحاجة إلى تفكير جاد وتبصر بالأمور، بحاجة إلى مؤسسات ترسم لها الخطط، وترتب الأولويات، وتراقب التحرك, والتفكير الاقليمي لا يحل الإشكال، فالأمة ذات سياق واحد وإشكالية واحدة ومصير مشترك ومواجهة موحدة, والحضارات الغربية والمدنيات المعاصرة سبقتنا بمنجزاتها وبمؤسساتها وبمطابخها السياسية وبمعاملها ومختبراتها وتصورها السليم لظاهر الحياة الدنيا, ومن ثم هاجرت إليها الأدمغة وقدمت لها الخبرات، وتمكن المهاجرون من التمتع بأجواء علمية ومعرفية مكنتهم من تقديم خبراتهم لحضارة مضادة, إن أملنا كبير وتفاؤلنا واسع وتطلعنا عريض، فنحن نملك الإمكانيات والخامات، ولم يبق إلا التخطيط السليم والبدء المنظم وتبادل الخبرات والإمكانيات والتخلص من النمطية وبطء التحرك والشك وتبادل الاتهامات وممارسة الإسقاط أو الإمعان في التصنيم، إننا بحاجة إلى الثقة بالنفس، والتصور السليم للدين الإسلامي، وتمثله عقيدة ومنهج حياة، واتجاه النخب الفكرية والإبداعية إلى تفهم المرحلة ومتطلباتها ووعي الآخر، ومن ثم صياغة الأسلوب الأمثل للتعامل معه، واختيار الأسلوب الأجدى للتعامل مع الذات، وليس أهم من التعاون على البر والتقوى والعمل الأسمى الذي يحقق كرامة الإنسان.
إن هناك اختراقاً ثقافياً مخيفاً جاء عبر: الشاشة التلفازية، وعبر قنوات البث الفضائي، وعبر شبكات المعلومات، وعبر المستغربين من أبناء الأمة الذين أهدروا طاقاتهم في خدمة الآخر، ومن خلال الآلة المستعملة في المصنع والسوق والبيت والثقافة المضادة حاضرة معنا في كل موقع، ومن ثم فقد تعددت مجالات الغزو، ومن أخطر الثغرات المهملة ثغرة ما زالت دون مرحلة الأماني، إنها ثقافة الطفل وتسلية الطفل وتعليم الطفل، فهل فكرت مؤسساتنا بإنقاذ الأطفال من البرامج المدبلجة وأفلام الكرتون المستغربة، لقد خافت (كندا) من سطوة الإعلام الأمريكي، وهي شريكتها في الحضارة واللغة والدين, ولم يساورنا نحن المسلمين بعض من هذا الخوف، إننا نعيش غفلة مستحكمة معتقة, وكل ما ينفذ إلينا يصل على مطايا التقنية، ونحن بحاجة إلى إبطال فعاليات هذا الاختراق الذي وصل حد الانتهاك، لا بالرفض، ولا بالانكفاء، ولا بمجرد التحذير والتحريم, إننا بحاجة الى الدخول بحضارتنا لنحتل موقعاً مماثلاً ونستغل زمناً مساوياً, إن الاختراقات الغربية تفوق التصور، وهيمنة القطب الواحد أقلقت الأقربين, حتى أن المنظومة الغربية انتابها بعض الذعر والخوف من تسلط بعض أجزائها على بعض، ف(فرنسا) مثلا أخذت حذرها من طغيان الثقافة الأمريكية، و(كندا) بدأت تشك في قدرتها على إشاعة ثقافة اقليمية، و(أوروبا) بكاملها بدأت تتكتل، وتتوحد، وتنسق فيما بينها، لتحول دون هيمنة القطب الواحد، ولتحفظ التوازن، وإذا كانت المؤسسات التربوية والتعليمية غير قادرة على صد هذا الاختراق ، وغير قادرة على إنجاز ثقافة مهيمنة ومنافسة، فإننا غير واثقين بالمؤسسات الإعلامية والمراكز المعلوماتية, إننا لكي نضمن الحياة السوية لابد أن نحفظ التوازن أمام ضراوة التحدي، والأمة المنتهكة في مواقع كثيرة، يكون من فروضها الأهم حماية ثقافية، لا تغلق الحدود، وإنما تصنع الثقافة المنافسة، ولا تشوش على القنوات، وإنما تصنع قنوات متكافئة، والأمة العربية التي أخفقت في صياغة الوحدة الاقليمية، ربما تكون قادرة على صناعة ثقافة موحدة، تنازل الثقافات المتعالية، وتستعيد بعض مواقعها، إن احتلال شبر من الأرض يحفز على إعلان حرب عسكرية واحتلال فضاءات ثقافية لا يحرك ساكناً، والأرض مهما طال احتلالها لا يترتب على استعادتها أي مشروع تغييري، فالأرض هي الأرض، لا يتطلب أمر استعادتها إلا تراجع العدو، أما انتهاك الثقافة فشيء آخر واستعادتها لا تكون استلاماً وتسليماً, إنها عمل شاق وطويل.
إن هناك هجمة على ثقافتنا وهناك اساليب استعمارية أحدثت عندنا أزمة ثقافية، نشأت من حرب ثقافية طاحنة، أحدثت الخلاف فيما بيننا فكان منا الشرقي وكان منا الغربي، وواجبنا أن نفكر بمشروع عربي نوفر فيه الأمن الثقافي، ونصد فيه الغزو الثقافي، ولا يتأتى ذلك إلا بالخطة الشاملة للثقافة العربية، وإنجاز أقمار عربية تأخذ نصيبها من الفضاء المشحون بكل الوان الثقافات وإعداد مشروع إعلامي، يخترق اجواء الآخر، ويقدم حضارة الأمة الإسلامية، إن علينا أن نعرف أسباب التخلف العلمي والتقني المتمثلة في: تمزق العالم الإسلامي وتناحره: تمزقه اقليمياً وفكرياً واجتماعياً، وتفشي الأمية بمفهومها العام، وبمفهومها التخصصي واستمرار التعليم المتنافي مع خطط التنمية ومتطلبات المرحلة، وعدم تمويل المشاريع العلمية والتقنية بالقدر الكافي والمغري للأدمغة المهاجرة بالعودة إلى بلادها واستيراد المناهج والأساليب الغربية دون النظر في ملاءمتها للحضارة الإسلامية، والاعتماد على الغرب كمصدر وحيد للاستفادة، وهو المتمنع في تصدير التقنية واسرارها، وانعدام التخطيط السليم، والتقصير في تمويل البحث العلمي، وعدم توفير الوسائل والأجواء الملائمة للعلماء.
إن مراجعة عجلى لكتاب (قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر) تضع الأيدي على مكامن الداء ووسائل العلاج، والأمة الإسلامية لا تنقصها المعرفة بالأوضاع والأسباب والوسائل، ولكنها بحاجة ماسة الى المبادرة والفعل المنظم.
فهل نستطيع التخطي من جلد الذات إلى معالجتها؟ ومن توبيخها إلى تشجيعها، وشحذ همتها واستثارة مكامن التفوق فيها؟ لقد مللنا من التلاوم، ومللنا من الإحباط ومملنا من التناحر حول مشروع الآخر، إن خطاباتنا المتعددة لا تخرج عن مواجهة الحضارة المهيمنة أو موالاتها، وما أحد منا ترك الصدام واتجه صوب العمل وطرح مشروع حضاري يملك الاستقلالية والمبادرة، ويحرك الأنصار والخصوم، إن واقعنا لا يتسم بالتخلف وحسب، إنه مصاب بداء التنازع والحرب الداخلية لحساب الآخر، فهل نعي حجم الخسائر الفادحة من ممارسة فتح الطريق أمام قوافل الحضارة الغربية؟ لقد ضقنا ذرعاً من التلاحي والجدل العقيم، ولم يبق إلا أن نتجه صوب التفكير الجاد في بدء الخطوة الأولى, إن (ثقافة التقنية، وتقنية الثقافة) لا تعني معرفة الآلة والاعتماد على مصدريتها واستهلاكها، إن ما نمارسه ونتقنه جزء من الثقافة، وهو الجزء الاقل أهمية, إننا لكي نتقدم بأنفسنا إلى المشاهد العالمية بوضع وصيغة مشرفة، لابد أن نكون قادرين على مشاركة العالم مهمة الاختراع والانتاج, ان المستهلك معول، حتى وإن امتلك قيمة ما يستهلك, والأمة الأضعف هي التي تأكل من زراعة الغير، وتلبس من نسيج الغير، وتدافع عن نفسها بسلاح الغير، وتعتمد على مناهج الغير في التربية والتعليم، والأمة الأجهل هي الأمة التي تفقد مقومات الوجود السوي، ثم تتطلع الى مشاركة العالم في اتخاذ القرارات المصيرية، والأمة الأحمق هي التي تنتظر العدل والإنصاف من خصومها، ومن أراد السلم والسلام فليستعد للحرب: (والظلم من شيم النفوس) ولا يصنع الهيبة إلا القوة: قوة السلاح والاقتصاد والفكر والعلم, وإلا الوحدة: وحدة الصف ووحدة الهدف ووحدة الفكر ووحدة الثقافة.
|
|
|
|
|