أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 17th July,2000العدد:10154الطبعةالاولـيالأثنين 15 ,ربيع الثاني 1421

الثقافية

الأدب الأخرويّ
عند أبي العلاء المعري
حنان بنت عبدالعزيز بن سيف
كان أبو العلاء المعري الشاعر الأعمى، يموج في عالم خيالي سحيق البعد، فهو شاعر قد كبلت قيود السجن نفسه، ولكنها لم تستطع أبداً أن تكبل نَفَسهُ، وخياله، وطموحاته، فهو ممن سمى نفسه رهين المحبسين (نفسه، والعمر، حيث أصيب بالجدري وهو في نحو الرابعة من عمره تقريباً، فذهبت عينه اليسرى، وابيضت اليمنى) وقد كانت نفس أبي العلاء المعري حروناً أبية شموساً، مالبثت باحثة عن حريتها وملاذها ومباهجها في عالم آخر، بعيد جداً عن عالمنا الدنيوي، فامتطت صهوة جوادها، نازحة عن الدنيا وزخرفها، مستقبلة بخيالها الثر الخصيب عالم الآخرة ونعيمها، ومما تذكره كتب الأدب والتواريخ عن أبي العلاء فقره الشديد المدقع، رُغم أنه كان من شعراء الذروة، فنظمه الشعري يأتي في مصاف شعر البحتري وأبي الطيب المتنبي، ومع ذلك كان لا يتكسب بشعره، ولو فعل لأقبلت عليه الدنيا وهي راغمة، وتذكر أيضاً زهده وتقشفه وقنوعه من الدنيا باليسير، فقد حرم ملذات الدنيا على نفسه، حيث بقي خمساًوأربعين سنة لا يأكل اللحم، فكان غذاؤه العدس، وكانت حلواه التين، ولباسه القطن، وفراشه الحصير، ومع ذلك تاقت هذه النفس الزاهدة إلى مباهج الآخرة ونعيمها، فجاد عليه خياله بعالم أخروي به ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهو في نعيم متجدد، بين خيرات وخيرات، وظلال وارفات، حيث أخذ هذا النعيم المقيم صورته الواضحة والمتكاملة في رسالته الموسومة (بالغفران)، والسؤال المتبادر إلى الذهن الآن، مالذي حدا بهذا الشاعر الكبير إلى ابتكار هذا المنحى الخيالي البعيد؟ هل السبب عائد إلى اطلاعه على آداب أخرى غير عربية، فأحبَّ أبو العلاء المعري بدوره أن ينقل هذا الفن إلى آدابنا العربية؟ أم أن السبب عائد إلى ذكاء أبي العلاء المعري المتوقد؟ الذي ظهر في كتبه وتصانيفه السائرة، والتي جاءت مخالفة للدارج والمألوف، فأراد أن يُدلي بدلوه المميز والمتميز، فقد بلغ الذكاء بهذا الشاعر أنه كان يحفظ كل ما مرَّ بسمعه، ويملي تصانيفه على طلبته من حفظ صدره، أم أن الأمر مرجعه إلى نحلة أبي العلاء وملته التي اشارت إليها كتب التراجم؟ فهناك من ينسبه إلى الزندقة والإلحاد، لأبيات شعرية قالها كقوله:


وما حَجِّي إلى أحجار بيتٍ
كؤوسُ الخمرِ تُشربُ في ذُرَاها
إذا رَجع الحكيم إلى حِجاهُ
تهاونَ بالمذاهبِ وازدراها

وهناك من ينسبه إلى البراهمة الذين يثبتون الصانع وينكرون الرسل، وهناك أيضاً من يقول بأنه تاب ورجع وارعوى، ويدل على صحة هذا القول أبيات إيمانية قالها في التوحيد، وإثبات النبوات، وفي الحض على الزهد والمروءات، مما يبين حسن توبته، وصحة معتقده، ولكن الله تعالى وحده هو العالم بسره وسريرته، فهل يكون هذا السبب الأخير هو الدافع الحقيقي له، والذي نجمت عنه رسالة الغفران؟ حيث كان مسرحها مجموعة كبيرة جداً من الشعراء والأدباء واللغويين، أُدير بينها الحوار، وأعمل فيها النقد، وعُقدت بينها الموازنة والمفاضلة، واهتم أبو العلاء المعري في هذه الرسالة بالمشكلات الفلسفية، والمعضلات الدينية، ومسائل الأدب التي عرضها بطريقة قصصية، ولم تخلُ هذه الرسالة من نقد الشاعر لسابقيه، وتعرضه لأعلام عصره ونوابغه، ثم أتى على هذه المجموعات الكثيرة، وأدخل العديد من شعرائها، وأدبائها، ولغوييها الجنة ببيت شعري واحد كانوا قد قالوه في حياتهم الدنيوية، ومن هنا لعلَّ أبا العلاء المعري طمح في دخوله الجنة، والتقلب في ملاذها ومباهجها، بموجب اشعاره الزهدية، وأبياته الإيمانية.
وقد وصف الإمام الذهبي رحمه الله تعالة هذه الرسالة في كتابه سير أعلام النبلاء (18/2339) بقوله: (ومن أردإِ تواليفه رسالة الغفران في مجلد، قد احتوت على مَزدَكةٍ وفراغ) ومعنى المزدكية هي ملة ونحلة قولها يشبه كثيراً من أقوال المانوية في الكونين والأصلين، وهذا ماحكاه الشهر ستاني في الملل والنحل (1/249) وأما المصدر الذي استلهم منه أبو العلاء المعري فكرة رسالته الغفران، فيرى د, أحمد هيكل في كتابه الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة أن أبا العلاء المعري كان متأثراً في رسالته الغفران بابن شهيد الأندلسي في رسالته التوابع والزوابع، التي نقلت إلى المشرق في حياة ابن شهيد وأبي العلاء، وهذا رغم شهرة أبي العلاء التي طبقت المشرق والمغرب، ويقول: (كان التفات ابن شهيد إلى هذا اللون القصصي الأخروي، مفخرة للأديب الأندلسي، جعلته سابقاً لمن ولجوا هذا الباب بعد ذلك من أدباء المشرق والمغرب، كأبي العلاء في رسالة الغفران ودانتي في الكوميديا الإلهية ).
وتعتبر قصة الإسراء والمعراج التي حدثت للنبي صلى الله عليه وسلم هي مصدر الإلهام الأصلي لهذا النوع من القصص وهي النبع الحقيقي لها، كما يقول د, أحمد هيكل في كتابه السابق (,, والمعقول أيضاً أن تكون قصة المعراج وما اشتملت عليه من أوصاف الجنة والنار وطوائف المنعمين والمعذبين، قد أمدت أبا العلاء بكثير من المشاهد التي ضمنها رسالة الغفران وعلى هذا يرجح أن يكون أبو العلاء قد أفاد من التوابع والزوابع وخاصة من ناحية مناقشة الأدباء، وعرض بعض مسائل الأدب، وأفاد كذلك من المعراج، وخاصة من ناحية وصف الفردوس والجحيم، وعرض بعض مشاهد الآخرة).
ولعل أبا العلاء المعري استفاد أيضاً من بعض الحكايات والأساطير التي كانت العرب ترويها وتحكيها، وقد يكون للمصادر الإسلامية دور كبير أيضاً في تغذية هذا الجانب عند أبي العلاء المعري، غير أن هذه الرسالة لها اشباه في الأدب اليوناني والروماني من حيث الفكرة فقط، مثل الأوديسه لهوميروس، ومسرحية الضفادع لأرسطوفانيس.
وقد أثرى أبو العلاء المعري أدبنا العربي بفكرة جديدة مفادها الانتقال من العالم الدنيوي إلى عالم آخر متناهي البعد، في بوتقة شعرية، وإطار أدبي.

أعلـىالصفحةرجوع





















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved