| مقـالات
وقال الإمام النووي رحمه الله أيضاً: وقال داوود: يقصر في طويل السفر وقصيره,, قال الشيخ أبو حامد: حتى قال: لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر,, واحتُج لداوود بإطلاق الكتاب والسنة جواز القصر بلا تقييد للمسافة، وبحديث يحيى بن مزيد 1 قال: سألت أنساً عن قصر الصلاة؟,, فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين,, رواه مسلم، وعن خبير 2 بن نفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً فصلى ركعتين، فقلت له، فقال: رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين,, فقلت له، فقال: أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل,, رواه مسلم، واحتج لمن شرط ثلاثة أميال 3 بحديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عيله وسلم قال: لا تسافر امرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم,, رواه البخاري ومسلم، ورواه مسلم كذلك من رواية أبي سعيد الخدري، وذكروا مناسبات لا اعتماد عليها 4 .
ثم قال مناقشاً لهم: والجواب عما احتج به أهل الظاهر من إطلاق الآية والأحاديث أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم القصر صريحاً في دون مرحلتين,, وأما حديث أنس فليس معناه أن غاية سفره كانت ثلاثة أميال، بل معناه أنه كان إذا سافر سفراً طويلاً فتباعد ثلاثة أميال قصر، وليس التقييد بالثلاثة لكونه لا يجوز القصر عند مفارقة البلد، بل لأنه ما كان يحتاج إلى القصر إلا إذا تباعد هذا القدر؛ لأن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسافر عند دخول وقت الصلاة إلا بعد أن يصليها فلا تدركه الصلاة الأخرى إلا وقد تباعد عن المدينة,, وأما حديث شرحبيل، وقوله: إن عمر رضي الله عنه صلى بذي الحليفة ركعتين: فمحمول على ما ذكرناه في حديث أنس، وهو أنه كان مسافراً إلى مكة أو غيرها، فمر بذي الحليفة وأدركته الصلاة، فصلى ركعتين,, لا أن ذا الحليفة غاية سفره 5 .
قال أبو عبدالرحمن: إن صح النقل عن داوود بأنه قال: لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر,, فهذا محمول على انتهاإ عمران البلد، إذ هذا مقتضى مذهبه الذي حكاه عنه ابن حزم رحمهما الله,, إلا أن السياق يدل على أن العزو إلى مذهب داوود، وقد اختصر بعضهم النقل عن النووي فعزا ذلك إلى أبي حامد من الشافعية.
وقول النووي رحمه الله: لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم القصر صريحاً دون مرحلتين : مردود بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، فإنه صريح فيما دونهما، وتأويل النووي له يحتاج إلى دليل يصحح تأويله، وإلى دليل ترجيح آخر يمنع من ظاهره، ولا دليل على ذينك، ولتحقيق دلالة حديث أنس رضي الله عنه مناسبة تأتي إن شاء الله.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ]661728ه[ أحد تأويلات حديث أنس رضي الله عنه، ثم قال: وهذا يوافق قول من يقول: لا يقصر حتى يقطع مسافة تكون سفراً,, لا يكفي مجرد قصده المسافة التي هي السفر,, وهذا قول ابن حزم وداوود وأصحابه,, وابن حزم يحد مسافة القصر بميل,, لكن داوود وأصحابه يقولون: لا يقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو,, وابن حزم يقول: إنه يقصر في كل سفر,, وابن حزم عنده أنه لا يفطر إلا في هذه المسافة,, وأصحابه يقولون: إنه يفطر في كل سفر بخلاف القصر، لأن القصر ليس عندهم فيه نص عام عن الشارع، وإنما فيه فعله أنه قصر في السفر، ولم يجدوا أحداً قصر فيما دون ميل، ووجدوا الميل منقولاً عن ابن عمر,, وابن حزم يقول: السفر هو البروز عن محلة الإقامة، لكن قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع لدفن الموتى، وخرج إلى الفضاإ للغائط والناس معه لم يقصروا ولم يفطروا، فخرج هذا عن أن يكون سفراً، ولم يحدو أقل من ميل يسمى سفراً، فإن ابن عمر قال: لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة,, فلما ثبت أن هذه المسافة جعلها سفراً، ولم نجد أعلا منها يسمى سفراً جعلنا هذا هو الحد,, قال: وما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر؛ فلا يقصر فيه ولا يفطر، وإذا بلغ الميل فحينئذ صار له سفر يقصر فيه الصلاة ويفطر فيه، فمن حينئذ يقصر ويفطر، وكذلك إذا رجع فكان على أقل من ميل فإنه يتم ليس في سفر يقصر فيه.
قلت: جعل هاأُلاإ السفر محدوداً في اللغة,, قالوا: وأقل ما سمعنا أنه يسمى سفراً هو الميل,, وأُلائك جعلوه محدوداً بالشرع، وكلا القولين ضعيف,, أما الشارع فلم يحدّه، وكذلك أهل اللغة لم ينقل أحد عنهم أنهم قالوا: الفرق بين ما يسمى سفراً وما لا يسمى سفراً هو مسافة محدودة,, بل نفس تحديد السفر بالمسافة باطل في الشرع واللغة,, ثم لو كان محدوداً بمسافة ميل,, فإن أريد أن الميل يكون من حدود القرية المختصة به فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج أكثر من ميل من محله في الحجاز ولا يقصر ولا يفطر، وإن أراد من المكان المجتمع الذي يشمله اسم مدينة ميلاً قيل له فلا حجة لكل في خروجه إلى المقابر والغائط، لأن تلك لم تكن خارجاً عن آخر المدينة، ففي الجملة كان يخرج إلى العوالي وإلى أُحُد كما كان يخرج إلى المقابر والغائط,, وفي ذلك ما هو أبعد من ميل,, وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخرجون من المدينة إلى أكثر من ميل ويأتون إليها أبعد من ميل ولا يقصرون كخروجهم إلى قباأَ والعوالي وأحُد، ودخولهم للجمعة وغيرها من هذه الأماكن,, وكان كثير من مساكن المدينة عن مسجده أبعد من ميل، فإن حرم المدينة بريد في بريد حتى كان الرجلان من أصحابه لبعد المكان يتناوبان الدخول: يدخل هذا يوماً وهذا يوماً,, كما كان عمر بن الخطاب وصاحبه الأنصاري ]رضي الله عنهما[ يدخل هذا يوماً وهذا يوماً,, وقول ابن عمر: لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة,, هو كقوله: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر,, وهذا إما أن يريد به ما يقطعه من المسافة التي يقصدها، فيكون قصده إني لا أُأَخِّر القصر إلى أن أقطع مسافة طويلة، وهذا قول جماهير العلماء إلا من يقول إذا سافر نهاراً لم يقصر إلى الليل 6 ,, قال أبو عبدالرحمن: ها هنا وقفات:
الوقفة الأولى: أن أهل الظاهر متفقون على أن أقل مسافة القصر ميل، وما حكاه شيخ الإسلام من اختلاف فإنه عن وقائع أخرى تتعلق بالقصر لا بمقدار المسافة.
الوقفة الثانية: قول شيخ الإسلام وأُلائك جعلوه محدداً بالشرع : يرجع ضرورة ولا بد إلى الفقهاإ الآخرين المخالفين لأهل الظاهر تحديدات اختلفوا فيها أيضاً، وكل طائفة ترى أن تحديدها هو المنقول شرعاً.
الوقفة الثالثة: ليس بصحيح أن السفر غير محدد لغة، بل هو مفهوم ضرورة من صيغة فَاعَل التي جاأ على وزنها سافر، وهو أقل من الميل كما سيأتي بيان ذلك إن شاأ الله في مناسبة قادمة عن مفهوم السفر، وبذلك يكون مذهب أهل الظاهر في التحديد: إما لغوياً ويكون خاطئاً، وإما عرفياً لكلام ابن عمر رضي الله عنهما، وإما شرعياً على أساس أنه فتوى وفعل صحابي لا مسرح فيها للاجتهاد.
الوقفة الرابعة: ليس بصحيح أن المسافة لم تحدد شرعاً، لأن حديث أنس رضي الله عنه أسند التحديد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته الفعلية، وهذا هو أحد الاحتمالات في كلام ابن عمر رضي الله عنهما كما سلف آنفاً.
الوقفة الخامسة: لا يلزم الإمام ابن حزم تفريع شيخ الإسلام رحمهما الله في قول شيخ الإسلام: لا حجة لابن حزم في خروجه إلى المقابر والغائط، لأن تلك لم تكن خارجاً عن آخر المدينة إلى أكثر من ميل ؛ لأن ابن حزم إنما يحدد مسافة القصر بما كان خارج عمران البلد,, وإذا كان أُحُدٌ خارج العمران فلا يتم احتجاج شيخ الإسلام إلا بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أدركته الصلاة في أحد، وهو لن يدرك وقتها في الحضر؛ فأتم ولم يقصر!! 7 ,, أما قباأُ والعوالي فمن عمران المدينة,, وعلى فرض أنها لم تكن من مسماها يومئذ ولا من عمرانها: فمن أدركته الصلاة بها فهو في حضر: له أن يتم مع الإمام، وله أن يقصر إن صلى وحده,, ولم يرد النص بأن الصلاة أدركتهم وهم يصلون وحدهم فأتموا.
ولما ذكر أحمد بن يحيى المرتضى ]775 840ه[ مذهب داوود أن القصر فيما يسمى سفراً قل أو كثر: علّق بقوله: وقول داوود معارض برواية إتمامه صلى الله عليه وسلم في قباإٍ، وبينه وبين المدينة دون بريد 8 ,, ونقل محمد بن يحيى بن بهران الصعدي ]888 975ه[ عن الانتصار: وأما ثانياً فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد كان يخرج إلى قباأَ فتدركه الصلاة فلا يقصرها,, وبينه وبين المدينة مقدار فرسخ 9 .
قال أبو عبدالرحمن: هذا يحتاج إلى إنساد صحيح، وعلى فرض صحته فمعنى ذلك أن قباأً من المدينة، وهذا موجود في تفريعات الفقهاإ كما في تفصيل ابن بشير من المالكية,, قال محمد خِلفَة الأُبِّيُّ ] 827ه[: قال ابن بشير: وإن كان حول المصر لا 10 بنآاتٌ معمورة وبساتين: فإن اتصلت وكانت في حكم المصر فلا يقصر حتى يجاوزها، وإن لم تتصل وكانت قائمة بنفسها قصر وإن لم يجاوزها,, قال: وإن كان المرتحَل عنه قرية لا تقام بها جمعة، ولا بساتين لها: قصر بمجاوزة البيوت اتفاقاً، وإن اتصلت بها بناآت أو بساتين فكما تقدم في المصر ذي البساتين، وإن كان السفر من بيوت العمود فلا يقصر حتى يجاوز الحلل,, وكان الشيخ يعتبر البساتين التي في حكم المصر بالبساتين التي يرتفق سكانها بمرافق المصر من أخذ نار وطبخ خبز وما يحتاج الى شرائه في الحال، ويمثِّل ذلك برأس الطابية وما قاربها 11 .
وقال عبدالله بن محمد النجري اليماني ]825 877ه[: وقد أخذ داوود بظاهر السفر ولو قل، وكذا في القصر 12 ، وفهم من الآية أنه لا يجوز القصر إلا بعد الضرب في الأرض,, وقدّره الهادوية بالميل,.
قال الهادي: وهو مروي عن النبي ]صلى الله عليه وسلم[ 13 ,.
وإلى مناسبة أخرى، والله المستعان.
الحواشي
1 هكذا في الأصل المطبوع، وإنما هو يزيد.
2 هكذا في الأصل المطبوع، وإنما هو جبير.
3 هكذا في الأصل المطبوع، وإنما هي الأيام.
4 المجموع شرح المهذب 4/325327.
5 المجموع 4/328329.
6 مجموعة الرسائل والمسائل 1/311 312 ط دار الكتب العلمية ببيروت طبعتهم الثانية عام 1412ه، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 24/132135.
7 قال العلامة صالح بن مهدي المقبلي ] 1047 1108ه[ في كتابه المنار في المختار من جواهر البحر الزخار 1/250: قوله: وقول داوود معارض برواية إتمامه صلى الله عليه وسلم في قباإ : هذه الرواية تحتاج إلى إثبات، ولم نرها في شيإٍ مما اطلعنا عليه في صحيح ولا سقيم، والله أعلم .
8 البحر الزخار الجامع لمذاهب علماإ الأمصار 3/43 44 نشر دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة بتحقيق القاضي عبدالله الجرافي.
9 جواهر الأخبار والآثار المستخرجة من لجة البحر الزخار بحاشية البحر الزخار 3/44.
10 هكذا في الأصل المطبوع، ولا تطبيع أوخطأ من الناسخ.
11 إكمال إكمال المعَلم وهو الحاشية الأولى المطبوعة مع صحيح مسلم وهي شرح له 3/11.
12 يريد أن هذا الحكم لقصر الصلاة، ولشرط المحرم لمن سافرت ميلاً.
13 شافي العليل في شرح الخمسمئة آية من التنزيل 1/621 و623.
|
|
|
|
|