| مقـالات
جِدّة النهر بالكسر وجُدّتُه بالضم : ما قرُب منه من الأرض، وضفته، وشاطئه، وكذلك: جُدُّ النهر، وجَدُّهُ قال في اللسان: والجُدّ والجُدّة: ساحل البحر بمكة, وجُدّةُ: اسم موضع قريب من مكة، مشتق منه، وفي المعجم الوسيط: الجدّ مثلثة الجيم شاطىء النهر, وعلى هذا يمكن تحريك الجيم في جدّة بأي الحركات الثلاث شئت ولا حرج, وبالنسبة اليها جدّاوي على غير قياس، وانما القياس جُِدِّيّ، كمكيّ، ويستعمل العامة مكّاوي أيضا على غير قياس، والقياس أيضا في جمع السلامة من البلدين: جدّيون، ومكيون، ولكن الشائع على الألسنة الجدادوة، والمكاكوة جمعا مكسّرا والجدّاويون، للسلامة، وكذلك المكّاويون.
وما تزال جدة المدينة التي ذكرت كتب اللغة أنها قرب مكة، تسهم في رسم الوجه الثقافي والعلمي والفني للمنطقة، وما زالت بحكم الموقع والموضع وعوامل أخرى بيئية وتاريخية مصدر جذب واغراء، هكذا كانت في ماضيها البعيد والقريب رغم قسوة الحياة، وهكذا هي منذ رسم خريطتها أناملُ الفنانين المبدعين في العهد السعودي الرائع الذي تتفيأ جدة ظلاله اليوم، فيفيض علينا نحن المواطنين خيرا وسحرا، وينفحنا بجماله وجلاله.
في العصر العباسي: حدّث اسحاق بن ابراهيم الموصلي عن أبيه قال: الأغاني 5/203 : بينا أنا بمكة أجول في سككها اذا أنا بسوداء قائمة ساهية باكية، فأنكرت حالها، وأدمنتُ النظر اليها، فازدادت بكاء، وقالت:
أعمرٌو، علامَ تجنبتني أخذتَ فؤادي، وعذبتني فلو كنتَ يا عمرُو خبّرتني أخذتُ حذاري، فما نلتني |
قال: قلت لها: يا هذه، من عمرٌو، قالت: زوجي: قلت: وما شأنه؟ قالت: أخبرني انه يهواني، وما زال يطلبني حتى تزوّجته، فلبث معي قليلا ثم مضى الى جُدّة وتركني، فقلت لها: صفيه لي، قالت: أحسنُ من أنت رائيه سمرةً، وأحلاهم حلاوةً وقدّاً، قال الموصلي: فركبت رواحلي مع غلماني وصرت الى جُدة ، فوقفتُ في موضع المرفأ أتبصّر ما يحمِل من السفن، وأمرتُ من يصوِّت وينادي : يا عمرو، يا عمرو,,! واذا أنا به خارجا من سفينةٍ، على عنقه صَنٌّ سلة مطبّقة، فيها طعام وشراب ، فعرفتُه بصفتيها ونعتها اياه، فقلتُ أسمِعُه:
أعمرو، علامَ تجنبتني أخذتَ فؤادي، وعذّبتني |
فقال: هيه أي زد ، أرأيتها وسمعتَ منها! قلت: نعم، فأطرق هنيهة يبكي، ثم اندفع فغنى به أملحَ غناء سمعتُه، وردّده عليّ حتى أخذته منه، فقلت له: ألاترجع اليها؟ فقال: طلب المعاش يمنعني، انظر، الناس يطلبون المعاش في جدة ، فقلت: كم يكفيك معها في كل سنة؟ قال: ثلاثمائة درهم, قال ابراهيم الموصلي: فأعطيته ثلاثة آلاف درهم، وقلت له: هذا لعشر سنين، على أن تقيم معها، فلا تطلب المعاش الا حيث هي مقيمة معك، فقبل باقتراح الموصلي، وردّه معه اليها بمكة, قال الموصلي: فوالله لو قال: ثلاثمائة دينار لطابت نفسي بها, ومن جُدة هذا الساحل التجاري كان حَكَم الوادي المغنّي يكاري الناس على جماله لنقل الزيت الى المدينة المنورة في العصر الأموي، كما ذكر ابو الفرج 6/264 .
وفي الأغاني 2/13 من روايات عديدة قال أبو الفرج: بينا أبو مُليكة يؤذّن يعني بمكة ، اذ سمع الأخضر الجدّي يغني من دار العاص بن وائل:
وعُلِّقتها غرّاءَ ذاتَ ذوائب ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهَم، يا ليت اننا الى اليوم لم نكبَر ولم تَكبَرِ البَهمُ |
قال: فأراد أن يقول: حيّ على الصلاة فقال: حي على البَهم، سمعه أهل مكة جميعا يقول ذلك، فغدا يعتذر لهم.
هاتان القصتان تنبئان عن تبادل فني بين مكة وجدة، ففي القصة الأولى مغنّ من مكة يغني في جدة بمحضر من مغني بغداد الأكبر ابراهيم الموصلي، وفي القصة الثانية مغنّ من جدة يغني في مكة، وبغض النظر عن موقفنا من متن القصتين وسندهما، تصديقا أو تكذيبا، فإن الجزء الذي سيبقى منهما له عدة دلالات، منها: تعاطف أهل الفن الواحد، ومسارعتهم الى بذل المساعدة لبعضهم، فهذا ابراهيم الموصلي يتكفل بنفقة عمرو المغني لمدة عشر سنين، ليستقيم حاله، ويتفرغ لأهله وفنه، ومنها التسامح الذي يتجلى في اغتفار الناس خطأ أبي مليكة، والاكتفاء ربما بمعاتبته وأخذه باليسرى.
هذا كل ما يمكن ان تفضي به هاتان القصتان، وليس فيهما أي وصف لبحر جدة الساحر ولا لنسيمها اللطيف المثير، ولا لأي مظهر من مظاهر الحياة فيها، كأنما ذلك تأخر ليكون من نصيب جُدة المعاصرة، بقلم أبنائها، وريشة زائريها، وفي مقدمة هؤلاء الشعراء جميعا، الشاعر العملاق حمزة شحاتة، وبخاصة في قصيدته جُدة التي مطلعها:
النُّهى بين شاطئيك غريق والهوى فيكِ حالم ما يُفيق ورُؤى الحب في رحابك شتى يستفزّ الأسيرَ منها الطليق ومغانيك في النفوس الصَّديَّا ت الى ريها المنيع: رحيق إيهِ يا فتنة الحياة لصبٍّ عهدُه في هواكِ عهدٌ وثيق سحرتهُ مشابهٌ منك للخلد ومعنىً من حسنه مسروق |
نُحسُّ ونحن نقرأ الأبيات اننا ازاء شعر ساحر وشاعر فنان، يحوّل الكلمات بين أنامله الى ضرب من النغم الحالم واللحن الشجي، الذي يحرك الأعطاف ويخالط النفوس، فيملؤها طربا وسرورا، فبلَدُه جدةُ يستغرق بمعانيه الرائعة، ومرائيه المحسوسة: العقل والوجدان كليهما، ويستوعبهما، فلا يغادرانه الى غيره، ولا يفيقان من سحره وجماله:
كم يكرّ الزمان متّئد الخطوِ وغصنُ الصِّبا عليك وريق |
هذه القصيدة القافيّة من شعر حمزة شحاتة، هي بحق من أروع ما كتب في شعر المدن في العصر الحديث، ولعلي في فرصة أخرى أخصها بدراسة مطولة، فهي وصاحبها جديران بذلك وأكثر.
|
|
|
|
|