| مقـالات
قصيدتان تاه بهما الزمن، فكثر طرحهما في مجالس الأنس والسمر، وغفل عن القائل من هو، وفي اي زمن قيلتا، فالانشغال بسحر اللفظ، وبراعة التركيب، وجودة الوصف، صرفت السامع عن البحث والتحقيق الى متابعة الشعر المرصوف، والقول المنمق، فمن يستمع الى اليتيمة يكون مثل من دلف الى روضة نورت ازهارها، وغردت اطيارها، وجعدت الريح غدرانها، فاختلط فيها الاحمر بالاصفر، وانبسط بياض الاقحوان بجانب الغدير الرقراق فالرائي لتلك الروضة لا ينصرف عن مباهجها الحاضرة الى استقصاء الروايات، وعصر الذهن عن تاريخ تلك الروضة واسمائها، وماذا قالت عنها معاجم البلدان، وما اسمها في العصور الغابرة, ان الشاعرية تتوافر في اليتيمة مما يأخذ لب القارئ فيتملكه العجب، وينساق خلف القول العذب، من مثل قول شاعرها:
من طول ما تبكي الغيوم على عرصاتها ويقهقه الرعدُ |
وقوله:
فالوجه مثل الصبح مبيض والفرع مثل الليل مسود ضدان لما استجمعا حسنا والضد يظهر حسنه الضد |
واليتيمة التي تبدأ بقول قائلها:
هل بالطلول لسائل رد ام هل لها بتكلم عهد |
اشهر قصيدة وصفت المرأة من رأسها الى قدمها، فالشاعر توافر على هذا الوصف، وتابعه، منذ بدئه الى نهايته، في براعة واستقصاء، وحسن لفظ، واستحضار شاعرية، مما لم نألفه في القصائد الاخرى، التي تعرض للمرأة في اول القصيدة او تصور وجد الشاعر وشوقه، ومن هذا المنطلق انفردت اليتيمة بنهج مخالف للشعر العربي في هذا الباب، فهي بحق يتيمة في فنها، يتيمة في انفرادها، يتيمة في تأثيرها في المستمع، بحيث لا يشاركها في هذا الشأن قصيدة اخرى، وقد بدأ الشاعر وصف المرأة بقوله:
بيضاء قد لبس الاديم اديم الحسن فهو لجلدها جلد |
واسترسل في الوصف الى ان قال:
ومشت على قدمين خصرتا وألينتا فتكامل القد |
وبالاضافة الى ما تنفرد به هذه القصيدة من الوصف الدقيق فهي تشتمل على عدد غير قليل من الحكم، من ذلك قول صاحبها:
ليكن لديك لسائل خرج ان لم يكن فليحسن الرد |
والقصيدة مشرقية، وقد نقلت الى الاندلس، وحظيت المعارضات من قبل شعرائه، اما سبب قولها فقد قيلت فيه اقوال منها: ان ملكة لليمن امتنعت عن الزواج الا في حالة واحدة، هي ان تجد رجلاً يعلوها فصاحة، وقد شاع خبرها في الناس، فانبرى رجل لهذا الامر، وصنع قصيدة، وسار الى الملكة، وفي طريقه حل ضيفاً في حي من احياء العرب، فسأله كبير الحي عن خبره، فأخبره بقصده، وانه لديه قصيدة، فطلب كبير الحي من الضيف انشاد القصيدة، فأنشدها، وعند ذلك قتل كبير الحي صاحب القصيدة، وسار الى الملكة بعد ان حفظها، وفي حضرة الملكة سألته عن بلده، فقال العراق، فقالت هذا قاتل بعلي، لأن في القصيدة ما يشير الى ان بلد الشاعر تهامة.
وهناك رواية اخرى تقول ان ابنة لأمير من أمراء نجد قد امتنعت عن الزواج، الا اذا وجدت من تقتنع بفصاحته، وان شاعراً من تهامة قد سار إليها، فالتقى بشاعر آخر قد سار للغرض نفسه، فأنشد الاول قصيدته، فرأى الثاني انها جيدة، فقتل الثاني الاول وسار الى الاميرة، فعرفت ان صاحب القصيدة ليس من ينشدها، وقالت لأبيها اقتلوا قاتل زوجي فقبضوا عليه وقتلوه واذا كان الاختلاف قد عرف في سبب انشائها، فان الاختلاف في قائلها مشهور منذ القديم، فالقصيدة معروفة منذ زمن الرواة القدماء، من امثال محمد بن حبيب، وثعلب، والاصمعي، وابي عبيدة، والمبرد، الا انهم اختلفوا فيمن تنسب اليه، وقد قيل انها من قول ذي الرمة، وانها لم تثبت في ديوانه، وقال آخرون انها من قول شعراء بني العباس، ورجح بعضهم ان تكون لأبي الشيص، او لدوقلة المنبجي، وقد امتد الاختلاف في قائلها الى خمسة عشر شاعراً، ورجح المبرد ان قائلها غير معروف، ولذلك فقد اطلق عليها المبرد اليتيمة، لانه لا يعرف قائلها.
واذا كان الاختلاف في قائل القصيدة قد امتد الى ما يقرب من عشرين شاعراً، والاختلاف في سبب انشائها جار معروف، فان قصيدة اخرى تقرن بهذه القصيدة في الشهرة، والحضور في مجالس الانس والسمر، مع انها قريبة من اليتيمة، لانها تتناول المرأة فهي قصيدة غزلية في شهرتها، وان كان بها جزء في غير الغزل، فهي سائرة بين الناس بسبب قصتها، ورقتها وشاعرية لغتها، وتلك القصيدة هي قصيدة:
يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده |
والقصيدتان حاضرتان في المنتديات، وسائرتان، ولهما معارضات كثيرة, ولعلي أقف على الثانية وقفة اخرى وبالله التوفيق.
د, عبدالعزيز بن محمد الفيصل
|
|
|
|
|