| مقـالات
قرأت في جريدة الجزيرة، منذ اسبوع، تحقيقا صحفيا شيقا قام به الزميل عبدالعزيز العيادة وتمحور حول مواقف وسلوكيات الباعة الجدد في أسواق الخضار المسعودة في مدينة حائل, هذا وقد شد انتباهي أثناء قراءة التحقيق مالحظت من تبعثر لكلمة العيب في ثنايا التحقيق، سواء أكانت تصريحا أو من ضمن السياق من قبيل العيب الاجتماعي ,, كيف ينظر المجتمع إليهم ,, أعمل ملثما! حتى لا أعرف,, كسر حواجز العيب الاجتماعي كان وراء نجاح السعودة,, أخجل من طلب النقود,, وتطول القائمة وتطول!
حسنا، دعونا علميا نغوص في هذا التحقيق لكي نرى كيف أن عبارات العيب هذه ليست في الحقيقة سوى مفردات مشتقة من قاموس ما يسمى علميا بثقافة العيب shame culture ، والتي يقابلها نقيضها: ثقافة الذنب Guilt Culture .
فالمجتمعات، وحسب مايرى علماء الاجتماع، تنقسم ثقافيا إلى نوعين: مجتمع ثقافة عيب، ومجتمع ثقافة ذنب، فمجتمع ثقافة العيب خير ما يمثله مجتمعات الدول النامية الشرقية، والتي من ضمنها مجتمعنا السعودي، بينما تتجسد مجتمعات ثقافة الذنب في المجتمعات الغربية ذات القيم العقلانية، المرنة، المنبثقة من الواقع، والقابلة للتغيير والتي من أبرز سلبياتها ماهو متمثل بماديتها المقيتة, إذن، دعونا نستقرىء مضمون بعض ماورد في التحقيق الآنف الذكر من عبارات ومعان من شأنها تزويدنا بفكرة عامة عن بعض من سمات ومقومات ثقافة العيب ، مستعرضين في نفس الوقت علاقتها السلبية بالعزوف المهني لدى الشباب، جنبا إلى جنب مع الحلول الثقافية اللازمة لاشكالية العزوف هذا.
حمل التحقيق منذ البداية عنوانا رئيسا يقول نصه/ الجزيرة تكشف سر البائع الملثم : وفحواه إشارة إلى أحد الشباب الذي اعتمر اللطمة ليتجنب الحرج الناجم من عمله بسوق الخضار! وعليه، فتلثم صاحبنا السعودي هذا ليس سوى نتاج تلقائي لجوانب نفسية/ سلوكية تراكمية، دفينة، متوارثة ينطبق عليها مسمى ثقافة العيب , فاللطمة! وكما تعرفون من الوسائل التي اتخذها ويتخذها بعض أفراد هذا المجتمع عندما يجدون أنفسهم في مواقف مريبة ! فيضطرون حينئذ إلى اخفاء هويتهم حفاظا على السمعة , ولكن مالذي أجبر صاحبنا على التلثم وهو يبيع الحلال تلثم من يبيع حراما! ,,,, مرة أخرى، إن السبب لتلثمه يكمن في أن ثقافة العيب قد فرضت عليه الاعتقاد بأن قيمته الاجتماعية في السلم الاجتماعي تتحدد من حسب نوعية المهنة بغض النظر عما تدره هذا المهنة من رزق حلال, تمعنوا بتألم هذا المتلثم! من تضارب القيم في ذهنه وتشتته وهو يصرح نصا :,, إنني مازلت أعمل في سوق الخضارملثما! لا يعرفني أحد وخصوصا إذا اقترب لي من غير أن يدري أحد أقاربي,,, فقط ليستدرك قائلا ,,, لا أخفيك انني مؤمن بأن عملي هذا شريف ومربح!! ولكني,,,!
ويستمر التحقيق الصحفي بلقاء مع شاب آخر يعمل هناك مجبورا من قبل أهله وحسب قوله، بل إنه صرح وعلى رؤوس الأشهاد بأنه نصا : يفضل الجوع على العمل هناك!,, فقط ليواصل التحقيق سرد اعترافات هذا الشاب بالقول نصا :
,, واعترف فلان ان الاجبار هذا جعله أحيانا يتصرف بعبث فوضوي خاطىء برمي بعض الطماطم بطريقة ساخرة على زملائه خلف دافع استهتاري ليحقق ذاته في شيء غير البيع والشراء,,، هنا ما رأيكم في استهتار هذا الشاب المتطلع إلى تحقيق ذاته؟,, وهل اعترافه هذا دليل على فشل قيم تحقيق الذات في ظل تقديره لذاته حسب الموقع الاجتماعي للمهنة التي يقوم بها كالعمل في سوق الخضار والذي يعرف هذا الشاب في قرارة نفسه بأنه عمل شريف لا يعيبه عائب؟!
إن ما سبق ذكره آنفا، يزداد وضوحا باستعراضنا لقصة شاب آخر أخبرنا التحقيق عنه بأنه حاصل على الثانوية العامة جنبا إلى جنب مع شهادتي حاسب آلي ولغة انجليزية, باختصار، قصة هذا الشاب كالقصة السابقة تتمحور حول تقييمه لنفسه من خلال تقييم الآخرين لمهنته، حيث أوضح أنه رغم جده واجتهاده بالعمل هناك فقد تم رفضه من قبل أحد العوائل التي تقدم إليها خاطبا,, والسبب؟!: إليكم إياه شارحا سبب الرفض نصا ,, تفاجأت برفض أهل البنت وقالوا لن نبهذل! بنتنا معك في هذا العمل الشاق!,, حسنا، يحدث كل هذا مع الأسف الشديد في الوقت الذي يسعى مجتمعنا جاهدا على إيجاد حل حاسم لمعضلة البطالة !! يحدث كل هذا أيضاً بسبب أن الأهل خايفين على البنت من البهذلة كما ورد في التحقيق! من عمل زوج المستقبل غير المشرف في أسواق الخضار!,, يحدث كل هذا، كذلك، في ظل مشكلة العنوسة المزمنة،بل والشائعة كل الشيوع رغم أنف الانكار الذي لا يبرره سوى أن انكار الواقع ليس في الحقيقة سوى سمة من سمات ثقافة العيب!
أخيرا، إليكم ماورد في التحقيق من قصة ضحية أخرى من ضحايا ثقافة العيب، ذكر التحقيق الصحفي قصة أحد الباعة,, وكنيته: أبو,, والذي يبدو من السياق أنه كبير السن مقارنة بغيره من العاملين الشباب هناك يقول هذا البائع إنه على الرغم من بذله الجهد الجهيد في سبيل تحسين وضعه المادي فهو لا يجني سوى التعب والارهاق! والسبب ؟!,, لأنه يرفض أخذمقابل لما يبيع على أقاربه وأصدقائه فضلا عن معاناته المريرة من خجله الذي يمنعه من المطالبة بحقه ممن يعده بالتسديد فيما بعد ولا يبر بوعده! بالمناسبة، منزل أبو,, وحسب قوله نصا : يشكو من نواقص لا يستطيع هو توفيرها,, ومع ذلك يذكر المحرر أن هذا البائع أصر لاحقا بل وحلف عليه بأغلظ الأيمان! على أن يأخذ كميات من الخضار والفواكه مجانا ! فما كان من المحرر كمحاولة منه لفهم موقفا متناقضا كهذا سوى التمثل بالمثل القائل أبو طبيع مايغير طبعه!,,, وبالفعل فقد صدق المحرر فغياب آليات العقلانية اللازمة لتنظيم السلوك بل والضرورية لتعديل هذا السلوك، جنبا إلى جنب مع سيادة قيم الايثار عن جهل سمات أصيلة من سمات ثقافة العيب وسبب من أسباب شيوع ظاهرة علي الطلاق أن تقلط! ,, رغم الظروف اللي ما يعلمها إلا الله ,, في الختام أود أن أقول (إلى,, أبو,,,): يا بو فلان,, مبدي على نفسه بالنار!,, انفع نفسك يامال الغنيمة!
,, ماهو الحل ياترى؟!,, إلى مقالة الخميس القادم.
للتواصل : ص ب 4206 رمز 11491 الرياض
|
|
|
|
|