| الاخيــرة
تحتلّ مكتبة الملك عبدالعزيز العامة مكاناً ومكانةً في مشهدنا الثقافي عبر مشاركتها الفاعلة في مهرجانات الفكر داخل المملكة وخارجها، ومن خلال المبادرات القيّمة التي تسنّها بين الحين والآخر، ممثّلةً في الندوات والمحاضرات والمعارض العلمية والفنية، وأحدثُ شاهدٍ على ذلك مشروعُها القادم، الذي يُتوقّع تنفيذُه في وقت لاحق من هذا العام، تعرض المكتبةُ من خلاله نماذجَ من الحصَاد الإبداعي لكوكبةٍ مختارة من نسائنا في حقولٍ متفرّقة من المعرفة: علماً وأدباً وفنّاً تشكيلياً، وسأتناولُ هذا الحدثَ الثقافي الكبيرَ مستقبلاً بإذن الله بمقالٍ خاص عبر هذه الزاوية.
***
وهناك مشروعٌ وثائقيٌّ طموح تُعدّ له المكتبة حالياً، وهو إصدار كتاب موسوعي يوثّق لحياة وأثر عددٍ من الشخصيات العربية التي لا تغرب شمسُ ذكرى بعضها عن ذاكرة إنسَان هذا الوطن، شاركت في إثراء النهضة الثقافية في المملكة العربية السعودية خلال المدة الواقعة بين عام 1319ه، وعام 1384ه وقد كرّمتني المكتبةُ بالدعوة للإسهام في هذا المشروع الحيويّ بترشيح بعض الأسماء التي يمكن أن يضمَّها الكتاب المقترح.
***
وعندي أنّ هذا المشروعَ الموسوعيَّ يلبّي احتياجاً هاماً، وهو التعبيرُ عن عرفان مثقّفي هذه الأرض الطبية لمن أسهم بعقله ووجدانه في إثراء مسارات بُنيتنا الفكرية والثقافية خلال سنوات تأسيس هذا الكيان الخالد، يوم كان ابنُ بلادي يصارعُ أمّيةَ الحرف في مدينته وقريته وهجرته وفَلَاته!
***
وأزعم أنّ من بين أهم تلك الشخصيات وأكثرها إثارةً وأثراً المؤرخَ اللبناني الأصل، والرحّالةَ العربي الذائعَ الصيّت، الأستاذ أمين الريحاني، الذي ألهمَه حبُّه للبطل المؤسس الملك عبدالعزيز، طيّب الله ثراه، رائعتَه التاريخية المعروفة بملوك العرب ,, لتصبحَ فيما بعد مرجعيةً يُستَدلُّ بها ويُستَعان في رصد مراحلَ هامةٍ من تاريخ هذه الجزيرة، وخاصة ما اتّصل منها بحركة الوحدة والتوحيد في بلادنا الغالية.
***
ويذكّرني الحديث عن سيرة أمين الريحاني بموقفٍ طريف تمّ بينَه وبين سيدي المرحوم الوالد، في مطلع شبابه، كان يمكن أن يكون نقطة تحوّلٍ جذريّ في سيرته رحمه الله، فقد كان الريحاني يرافقُ الملك عبدالعزيز في جولةٍ له بقاعدةِ الوشم، شَقراء ، حين ألمّت به حمّى شديدة أودعته السريرَ أياماً، وكان يرقدُ في غرفة خاصة بقصر وجيه شقراء المعروف العم عبدالرحمن السبيعي رحمه الله، حيث كان يقيم الملك عبدالعزيز، وكان سيدي الوالد يتردَّدُ على الريحاني، يستفسر عن حاله، ويلبِّي بعض ما يحتاجه، وتشدُّ نظر الريحاني تقاسيمُ الجدّ على وجه الشاب محمد السدحان، فيستبقيه مرةً ويسأله: ماذا بلغت في الدراسة ؟ فيجيبُه سيدي الوالد بأنه أدرك عبر كتَّاب القرية ما أمكن من قراءة القرآن وبعض أُسس الكتابة, وهنا يتحمّسُ الريحاني لحديث الفتى، فيعرضُ عليه اصطحابه الى بيروت، بعد أن يبلَّ من مرضه، ليتعلّمَ هناك تعليماً منتظماً حتى الجامعة، ويُطرِقُ سيدي الوالد لحظة تأثراً بما التقطه سمعُه، وهو الذي لم يسمع قط ببيروت ، ناهيك أن يراوده الحلمُ بالدراسة فيها, ثم يفيقُ من شروده، فيطلب مهلةَ يوم أو يومين للردّ على الريحاني، ويعود سيدي الوالد بعد ذلك الأجل ليبلغَه اعتذاره عن تلبية الدعوة، وعَبَثاً يحاول الريحاني إقناعَ الفتى السدحان بعرضه، فيكرّر هذا اعتذاره مقروناً بالشكر، مشيراً الى ان ما حصل عليه من تعليم كافٍ للفترة الراهنة، وأنه سيتابع تعليمه في المملكة مستقبلاً!
***
كان سيدي الوالد رحمه الله شديدَ الاعجاب بأمين الريحاني، وقد حدثني اكثر من مرة عن عرض الريحاني لاصطحابه معه الى بيروت، لمتابعة تعليمه هناك , ومرةً علّقتُ على ذلك الموقف فقلت، من يدري ياسيدي لو استجبتَ لدعوة الريحاني ورافقته الى بيروت، فربما حَملتك موجةُ العلم والمدنيَّة الى صفوف المشاهير، علماً وعطاء، ومن يدري أيضاً فربما تزوّجتَ هناك وأنجبتَ خَلَفاً قد يصبح رجل أدبٍ أو مالٍ أو علمٍ أو سياسة!
***
وبعد,,
فقد كان سيدي الوالد رحمه الله، بشهادة كثيرين من معاصريه، يملكُ نزعةَ الأديب والمؤرّخ والباحث والروائي، لكن ظروفَ زمانه وحيثّيات العيش وشظفه حملته بعيداً عن هذا الطموح، ليمضي شطراً من شبابه تاجراً متنقلاً على ظهور الركايب في شمال المملكة وشرقها ووسطها، قبل أن يلقي عصَا الترحال في أبها، ويكون كاتبُ هذه السطور أوّل ثمار ذلك الاستقرار، ثم يقودُه موكبُ العيش الى مدن أخرى في المملكة، كانت الرياضُ آخرها حيث امضى بها ردحاً طويلاً من عمره حتى أدركه الأجل، رحمه الله.
|
|
|
|
|