| مقـالات
يتشابك موضوع الشؤم بموضوعات أخرى، يصب أحدها في الآخر، ويتأثر به أيما تأثر، مثل موضوع الحسد، والعين، فكلاهما قد يسبب شراً أو يجرُّ نحساً، ولأجل هذا أمرنا الله أن نستعيذ منهما ومن أصحابهما، قال تعالى: (قل أعوذ برب الفلق من شرِّ ما خلق ومن شرِّ غاسق إذا وقب ومن شرِّ النفّاثات في العُقد، ومن شر حاسد إذا حسد)، فعل المؤمن أن يحمي نفسه بالمعوّذات الشرعية، وأن يحمي غيره منه، فإذا رأى ما يعجبه قال: ما شاء الله، وهي جملة تطفئ مثارات الشر في النفس البشرية، وتحد من تأثيراتها المدركة والمستسرّة، قال تعالى في صاحب الجنة: (ولولا إذ دخلتَ جنتك قلتَ ماشاء الله لا قوة إلا بالله) الكهف/39 بل تحمي نفسك من نفسك، فالمثل يقول: ما يحسد المال إلا أصحابُه، والحسد والعين لا يعدوان أن يكونا حركة بيولوجية وأخرى سيكولوجية، يتبعها تغيّر على صعيد الواقع، أو في دنيا الوهم والتخييل ومع إيماننا بفاعلية الحسد والعين، فإنه لا ينبغي الاستسلام لما قد يتركان في نفوسنا من هلوسة.
ويتناقل نوع من الناس بعض الأيام والشهور والأرقام، وينسبون لها الشؤم، فهذا الرقم (13) منحوس عند الأوروبيين، والرقم خمسة، منحوس عند العرب، ولهذا لا تنطقه بعض الشعوب العربية، بل تضع مكانه كلمة (عدِّه) هكذا: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، عدّه، ستة إلخ, وكان الناس بالمدينة المنورة، وبعض المدن الأخرى لا يقيمون أعراسهم في شهر صفر، ويعتقدون بنحسها إن حصلت عمداً أو اضطراراً، ثم كسرت هذه القاعدة بالاعتماد على الله ثم بالفكر المستنير الذي لا يقبل مثل هذه الخزعبلات، وجاء في (ثمار القلوب ص649): أن بعض الناس يعدون الأربعاء أثقل الأيام، وفيه قال أحد الشعراء من مزدوجة:
الأربعاءُ يومٌ وَحِش النحسُ فيه منكمِش الأخذ فيه والعطا من ذي المودات خَطا |
ولابن الحجّاج من قصيدة يرثي بها الفتح بن العميد:
أقول ليوم الأربعاء، وقد غدا عليَّ بوجهٍ أغبرِ اللون، قاتم: بَعثتَ على الأيام نحساً مؤيَّدا بشؤمك، يا يوم الندى والمكارم |
وتداول الناس الشؤم بين الأربعاء والأحد، وقالوا: كان قَدار بن سالف، ومن تابعه من ثمود، عقروا الناقة يوم الأربعاء، فصبّحهم العذابُ يومَ الأحد, وقال أبو تمام في محمد بن يوسف، وقد أوقع بقوم في يوم الأحد، كانوا من البغاة:
من كان أنكأُ حدّاً في كنائسهم,,؟
أأنت أم سيفك الماضي، أم الأحد,,؟
وقال إسماعيل الناشي:
تجنّب حدة الأحد ولا تركب إلى أحد فما بالدَّير من أحد يؤمَّلُ ثَمّ ، لا أحد! |
ويقول المثل: (الملافظ سعادة)، فربَّ كلمة جلبت فرحاً، وحققت مرحاً، وكلمة أخرى أنشأت حزناً وكآبة، أو أسالت دماءً، وأقامت حرباً، فعن إبراهيم بن المهدي العباسي (الأغاني 5/138) قال: أرسل محمد الأمين في ليلة من ليالي الصيف مُقمرة: ياعم، إن الحرب بيني وبين طاهر بن الحسين قد سكتت، فصِر إليَّ، فإني إليك مشتاق.
فجئته وقد بُسط له على سطح دار أمه زُبيدة، وعنده سليمان بن جعفر، ومجموعة من جواريه، بينهن جاريته المفضلة (ضَعف) وكانت تحسن الغناء، فقال لها: غنيني، فقد سُرِرت بعمومتي، فاندفعت تغنيه من شعر الوليد بن عقبة:
همُ قتلوه، كي يكونوا مكانه كما فعلت يوماً بكسرى مرازبُه بني هاشم، كيف التواصلُ بيننا وعند أخيه سيفُه ونجائبه |
فغضب، وتطيّر وقال لها: ما قصتكِ ويحك، غنيني ما يسر، فاندفعت تغني:
هذا مقامُ مُطرّدٍ هَدِمت منازلهُ ودُورُه |
فازداد تطيّرا، وقال لها: ويحك، غنِّي غير هذا، فغنّت:
كُلَيبٌ لعمري كان أكثر ناصرا وايسرَ جُرماً منك، ضُرِّج بالدمِ |
فطردها، وقال لها: قومي إلى لعنة الله، ولقد كان في إمكان هذه الجارية أن تكون أكثر ذوقاً، وأقدر على حسن الاختيار لمناسبة مثل هذه المناسبة، ومقام مثل هذا المقام، ولكنها لم تفعل، ربما لأنها باب من أبواب الشؤم الذي أصاب الأمين، وانتهى به إلى القتل، أو لأنها لشدة إخلاصها له كانت تنبهه إلى وجوب أخذ الحيطة، وعدم الانخداع بسراب الهدنة التي بادره بها أنصار المأمون، أو ربما كانت مكلفة بتوصيل رسالة إليه من أعدائه بعد أن اشتروا ذمتها وقتلوا في نفسها الإخلاص له، بحيث يساعد مثل هذا الغناء وما فيه إيماءات للنهاية، في توهينه، وبعث اليأس والاضطراب في نفسه.
ومن الملافظ غير الموفقة قول النابغة الجعدي: (الأغاني 5/7):
لبستُ أناساً فأفنيتُهم وأفنيتُ بعد أناسٍ أناسَا |
فقد سمعه بعض الأعراب فقال: إنه مشؤوم.
ويتشاءم بعض الناس بالعين التي ترف، والكف التي تشفّ، وبأوضاع النعلين، ونحو ذلك، ويبالغون في تحكيم الأحلام في استكشاف الغيب، ويضيقون بنهيق الحمير ونعيب البوم والغربان، كما أن بعض الناس مع الأسف يأتون إلى العرّافين والمنجمين، ومَن يدّعون استكشاف الغيب عن طريق ضرب الودع والرمل، وغيرهما من الوسائل الشيطانية والخرافات التي لا يقبلها عاقل يحترم نفسه، ويحس بقيمته وكرامته وإنسانيته الحقّة في هذا الوجود، والذي يستغرب له أن مثل هذا السلوك ليس قاصرا على العامة والجهال، بل قد يصدر من بعض المتعلمين والمتعلمات وحملة الشهادات، فمتى يتحرر أمثال هؤلاء من أسر الخرافة، ويحكّمون النقل والعقل فيما يشهدون ويأتون أو يذرون؟
|
|
|
|
|