| مقـالات
أدى توازن الرعب النووي بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية إلى عدم وقوع حرب مباشرة بين القوتين العظميين في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى تفكك الاتحاد السوفيتي نهاية العام 1991م, واتخذ التنافس بين الطرفين شكل سباق تسلح وحرب إعلامية وتسابق على كسب الحلفاء والاصدقاء خصوصاً في المناطق الاستراتيجية من العالم, لقد كان هناك حرب بين القوتين العظميين ولكنها لم تصل الى مرحلة الصدام العسكري المباشر لذا سميت بالحرب الباردة, ورغم التوترات الشديدة التي تميزت بها حقبة الحرب الباردة إلا انها لم ترتق الى مستويات اعلى من الصراع، وكان السبب المباشر لذلك هو توازن الرعب النووي, لقد قام توازن الرعب النووي على مفهوم الردع الاستراتيجي والذي يعني ان يمتلك كل طرف قدرات نووية استراتيجية قادرة على ردع الطرف الآخر عن القيام بأي هجوم, ان الذي يمنع أي طرف من الاعتداء على الطرف الآخر هو قدرة هذا الطرف الآخر على الرد المماثل, وباختصار فقد كان لدى الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة القدرة على إلحاق اذى كبير وتدمير بعضهما البعض في حالة وقوع حرب بينهما, اذن ففكرة الردع الاستراتيجي هي عقيدة عسكرية هجومية تعني أنه في حال تعرضي للهجوم من قبل الطرف الآخر فان رد الفعل لدي لن يكون محاولة صد هذا الهجوم بل القيام بهجوم مماثل يلحق نفس المقدار من الأذى أو أكبر مقدار من الأذى بالطرف الآخر, وهذا كان كافيا لمنع احدهما من الهجوم على الآخر لوجود حالة من التوازن في الأسلحة النووية بينهما.
ونستطيع تشبيه ذلك بحال اثنين من الفرسان وقد اشهر كل واحد منهما سيفه وفي حالة تحريك سيفك تجاهي سأقوم وبسرعة بتحريك سيفي تجاهك, أرادت الولايات المتحدة خرق هذه الحالة من اشهار السيوف والتحفز في كل لحظة ببناء ترس دفاعي تضعه في يدها الأخرى فتحقق بذلك تفوقا نوعيا على منافسها، فتصد ضربات سيفه بدرعها وتستطيع توجيه ضربات بسيفها الى جسده المكشوف,
واطلقت الولايات المتحدة برنامجا ضخما في بداية الثمانينيات لتحقيق هذا الهدف، اطلق عليه اسم مبادرة الدفاع الاستراتيجي او ما اطلق عليه بلغة الصحافة حرب النجوم حيث ان الصواريخ العابرة للقارات البالستية تنطلق بشكل رأسي الى ان تخرج من الغلاف الجوي ومدى جاذبية الأرض الى الفضاء ثم تعود لقصف اهداف محددة على الكرة الأرضية, وهذا يعود لكون الصاروخ يحتاج الى طاقة كبيرة ليقطع كل هذه المسافة بشكل أفقي، لذا وجد ان اطلاقه بشكل رأسي حتى يخرج من مجال الجاذبية فتكون الكرة الأرضية في مرماه ثم يعود ليقصف أي هدف عليها هو الطريقة الوحيدة لقطع مسافات طويلة بأقل قدرة من الطاقة, وكانت فكرة الدفاع الاستراتيجي تقوم على تدمير الصواريخ السوفيتية وهي في الفضاء وقبل عودتها الى الارض, ولذلك سميت حرب النجوم لانها ستقع في الفضاء الخارجي للأرض, كما احتوت مبادرة الدفاع الاستراتيجي على اسلحة دفاعية ضد الصواريخ متوسطة المدى ومحاولة تدميرها في الجو لتقليل فعاليتها الى أقل قدر ممكن, وبالفعل بدأت الولايات المتحدة برنامجا ضخماً لتطوير مبادرة الدفاع الاستراتيجي وتكوين غطاء أمني يقيها أي هجوم نووي, لكن نهاية الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفيتي جعلت الولايات المتحدة تعيد النظر في هذا الغطاء المكلف للغاية ودخلت العلاقات بين الشرق والغرب مرحلة جديدة توجت بعقد مجموعة من الاتفاقات بين الطرفين لخفض اسلحتهما النووية الى درجات دنيا، وصادقت الجهات المعنية في الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية على تلك الاتفاقات.
لكن الولايات المتحدة عادت مؤخراً للحديث عن ضرورة توفير غطاء واق يحميها من أي هجمات نووية خصوصاً من بعض الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة خارجة على النظام الدولي مثل كوريا الشمالية او العراق او أي دولة لا تحكمها قيادة رشيدة قد تفكر بشن هجوم مضاد حتى لو أدى الى محو وتدمير هذه الدولة بالكامل, وكما كان متوقعاً رفضت روسيا هذا المشروع الامريكي بصفته سيعطي للولايات المتحدة تفوقاً عسكرياً ونووياً كبيراً وغير مسبوق، ومعلوم ان روسيا لا تمتلك اليوم من وسائل القوة إلا القدرة العسكرية والنووية بالذات، اما الناحية الاقتصادية فروسيا تعاني من مشاكل كبرى وبحاجة ماسة الى الدعم الامريكي، وفقدان روسيا لأي ميزة نووية يعني نهاية روسيا ليس كقوة عظمى فهذا تم سنة 1991 لكن كقوة دولية.
وحاول الزعيم الروسي بوتين شحذ قوة اوروبا لمعارضة المشروع الذي سيجعل الولايات المتحدة القوة العظمى والوحيدة, وخلال القمة التي ضمت الرئيس الأمريكي الى رؤساء الاتحاد الاوروبي في لشبونة قبل اسبوعين لم ينجح الرئيس الأمريكي في اقناع الاوروبيين بوجاهة مشروعه الدفاعي الجديد, فالأوروبيون اختلفوا مع كلينتون في مدى مروق من اسماهم كلينتون الدول المارقة ومدى جديتها مهما بلغ الجنون بالمتسلطين عليها الى اطلاق صاروخ نووي يستهدف الولايات المتحدة مخاطرة برد فعل نتيجته هي محوها من على وجه الارض, وحذر الأوروبيون الولايات المتحدة من ان مضيها قدماً في ذلك المشروع قد يؤدي الى استئناف سباق التسلح، أي ان روسيا غير القادرة على توفير غطاء أمني مشابه قد تلجأ الى اسلوب جديد وهو محاولة تطوير صواريخ جديدة قادرة على اختراق هذا الغطاء الأمني مما يكفل لها نوعا من التوازن ويحفظ لها ما تبقى من مكانتها الدولية, ان امتلاك روسيا للرؤوس النووية لا يزال يمثل عامل طمأنة لها كدولة مازالت على قدر من العظمة على الرغم مما لحق بها من الهوان، وكدولة تطمح للعب دور دولي على الأقل في محيطها المباشر وما يمثل لها مجالها الحيوي.
واذا مضت امريكا في اقامة درعها الواقي فان روسيا تخشى ان يؤدي ذلك الى تعطيل كل مفعول ردعي او استراتيجي لما تبقى من سلاحها النووي، لذا فلن يكون امامها من خيار إلا تطوير صواريخ هجومية جديدة لعدم قدرتها الاقتصادية والتكنولوجية على توفير درع واق ند لذلك الأمريكي.
لقد تشابهت ردود الفعل الأوروبية مع تلك الروسية التي ترى في الدرع الأمريكي الواقي وسيلة امريكية لاثبات تفوقها الكامل ويهدد باستئناف سباق التسلح، فهل تستمر الولايات المتحدة بمشاريعها الدفاعية الجديدة، مرضية بذلك المركب العسكري الصناعي الداخلي في أمريكا، لكن مهددة بقيام نوع من التحالف بين روسيا وحلفاء امريكا الاوروبيين ان التطورات التي ستحدث في هذا السياق هامة وهامة جداً فيما يتعلق بتطور التحولات في النظام الدولي الجارية منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وحتى الآن.
|
|
|
|
|