| الثقافية
يمكن أن تسهم رواية: (دفء الليالي الشاتية للكاتب د, عبدالله صالح العريني في الكشف عن جانب من التحول الفني والفكري في الرواية المعاصرة، برغم أنها اول رواية له، وهذا مما نعتد به في التشكيل الإسلامي للرواية العربية، ذلك ان دعوى الواقعية عند كل روادها وعلى رأسهم بلزاك وإميل زولا وجورج لوكاش، حتى الوجوديون بريادة سارتر، يقدمون الشخصية الروائية غارقة في واقعها بانحرافه وفساده بغية التنفير من هذا الواقع وللإرهاص بالتغيير المرجو كما يزعمون، وعلى إثرهم وجدنا كثيرا من كتاب الرواية في أدبنا العربي الحديث، يتفننون في تقديم صور الفساد، خاصة فيما يتعلق بالجنس، ومدى سيطرته على مصائر الشخصيات وتحولاتها، لدرجة تثير التقزز في كثير من الأحيان، وتجعل المرء يخشى على أبنائه وبناته إن هم قرءوا هذه الروايات، لما يمكن أن تستثيره لديهم من خيالات، كما تتهدد مثل هذه الصور حياة المجتمعات بالضياع والانحلال، إن لم يكن لهم عاصم من دينها وقيمها.
وكأني بهؤلاء الكتاب الأوروبيين والعرب الذين تابعوهم لا يرون في النظريات العلمية وفكر فرويد وآرائه في التحليل النفسي الا هذا التوجه الذي يولي الجنس وانحرافاته هذا الاهتمام الزاعق، وبناء على ذلك كثرت الروايات الأجنبية والعربية التي لا هم لها الا طرح هذه الصور المنحرفة لعلاقة الرجل بالمرأة, وكأن الحياة ليس فيها الا هذا الانحراف والفساد، أما القيم الفاضلة والسلوك السوي، والعلاقات الإنسانية النظيفة الراقية التي يدعونا إليها الدين الإسلامي، فلا تستهوي هؤلاء الكتاب لعرضها، وتحبيب المتلقين فيها.
ليس معنى ذلك أني أدعو لعدم التناول الفني لصور الفساد والانحراف جنسية وغير جنسية، كلا وإنما أتمنى ان يكون التناول الروائي لذلك بعيداً عن الإثارة، وأن يمس هذه الانحرافات مساً فلا يعمقها في نفس المتلقي، خصوصا المراهقين والمراهقات، وأن يكون الطرح الفني للقيم الفاضلة، والسلوك السوي في رواياتنا هو الأبرز والأوضح بجانب عرض صور الفساد والانحراف ودعاوي الجنس، بطريقة فنية لا تدغدغ المشاعر أو تثيرها، ولا تغري بالشر والوقوع فيه, لذلك فإن رواية (دفء الليالي الشاتية) يمكن ان تحقق بعضاً مما نرجوه في هذا المجال، لكن كيف تتحقق ذلك فنياً؟
بداية سوف نجد (العنوان) جذاباً، حتى ليتوهم المرء وقوع هذه الرواية فيما وقعت فيه كثير من الروايات الاخرى، خاصة والتفكير المادي السريع في (دفء الليالي الشاتية) قد يجرنا الى ذلك، لكن القراءة المتأنية للرواية، خاصة في فصولها الخمسة الأخيرة، سوف يكشف عن ان هذا الدفء معنوي منوط بقيم الدين الإسلامي كالتآلف، والتعاون، والمحبة، والتلاقي على الخير والمودة على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، وذلك عندما يحرص بطل الرواية عبدالمحسن المبتعث السعودي الى امريكا على بناء مسجد لأداء الصلاة، ويلتقي فيه هو وغيره من المسلمين في الولاية التي يتعلمون فيها، و يعملون بها مما يوطد الصلات بينهم، ويجمع شملهم حتى لا يذوبوا في هذا المجتمع، وينفصلوا عن تقاليدهم وأعراف دينهم، وذلك بجانب ما يغمر علاقة عبدالمحسن بزوجته من مشاعر وتقدير.
وتشكل كلمة (دفء) بمدلولها اللغوي والإنساني النفسي الذي يوحي بالاستقرار والسعادة والمودة محورا مهما في بناء هذه الرواية، تجسيدا للعلاقات بين شخصياتها، ومرد ذلك الى التمسك بقيم الإسلام ومبادئه، وفي تكوين هذه الشخصيات ما يؤكد التشكيل الإسلامي الفني لها، وهو تشكيل مستمد من طريقة القرآن الكريم في عرض النماذج البشرية (2) ، فمن بينهم من هو فاسد عابث، راغب في الشر والانحراف، لكن الكاتب يكشف عن ذلك تلميحاً لا تصريحاً، كما أنها شخصيات تقوم على (التقابل) فعبدالمحسن تقي متمسك بدينه، وما يدعوه إليه من عفة وتصون،,, متزوج من أمل وله منها طفلة هي (مناير)، وهو من الذين يألفون ويؤلفون، بينما وليد ابن خالته لا يصلي، وكان متلهفاً على الابتعاث الى امريكا حتى يطلق العنان لرغباته في هذا المجتمع المفتوح، وبرغم ان عبدالمحسن قد سبقه في الابتعاث الى هناك، لكن وليد لم يكن حريصاً على لقائه وأخذ عنوانه، لأنه يعلم ما يتصف به عبدالمحسن من عفة وصلاح، مما قد يجعله رقيباً على وليد، وما يتطلع اليه من رغبة في العبث والانطلاق، وما لا يستطيع ان يمارسه من تجاوز وانفلات (3) في بيئته السعودية، وهكذا يتمتع عبدالمحسن (بدفء) الأسرة والعلاقات الاجتماعية المستقيمة، وقبل ذلك (دفء) العمل والنشاط الثقافي الذي يحقق من خلاله طموحاته وطموحات أهله ووطنه فيه، كنموذج للرجل العربي المسلم.
ويمتد (التقابل) ليشمل علاقة أمل زوجة عبدالمحسن بجين ابنة صاحبة المسكن الذي استقر فيه بمدينة (دنفر) بولاية كلورادو، حيث قضت هذه الأسرة سبع سنوات هي مدة ابتعاث عبدالمحسن حتى حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه.
وهذا (التقابل) بين امل وجين، كاشف عن التباين الشديد بين المرأة العربية المتمسكة بدينها الإسلامي وتقاليدها، والمرأة الأمريكية بتقاليدها وحياتها التي تحكمها المادة في كل شيء، فأمل الحريصة على راحة أسرتها الكبيرة والصغيرة، وأدائها لواجباتها نحو زوجها وأهله وأولادها، سعيدة بذلك، بينما جين الفتاة التي توشك على العنوسة تهجر والدتها المسنة، مكرسة كل حياتها للعمل في المستشفى كرئيسة للممرضات، ظانة أنها بانخراطها في العمل تؤمن حياتها ماليا دون ان تكون بحاجة الى الرجل أو الأسرة أو الأهل، حتى صارت أقرب الى الرجولة منها الى الأنوثة، لكنها ما إن رأت استقرار حياة أمل وزوجها، وسعادتهما بابنتهما حتى ثارت في نفسها كوامن الاسى والشقاء، والإحساس القوي بحاجة الانسان الى دفء الأسرة وارتباط المرأة بالرجل، وافتقارها للعلاقات الاجتماعية السوية التي تشعر الإنسان بإنسانيته وكرامته التي اشترطها الإسلام لبني آدم، وفي لحظة مكاشفة، تفضي جين لأمل بما يمور به داخلها خلال تدفق تيار الوعي، فتقول:
(إنني أعرف تماماً أنني على عتبات سن اليأس,, وبعد شهرين سوف أكمل عامي السابع والثلاثين,, سأعيش وحيدة,, وأموت وحيدة,, دون أن أجد احدا يحزن عليَّ.
ليس هناك زوج، ولا أطفال، أشعر أن حياتهم ووجودهم امتداد لحياتي، إنني لا استطيع أن أفكر في ذلك,, لكن كل يوم يقربني من ذلك المستقبل الموحش,, آه,, هل يمكن أن تعيش المرأة بعيداً عن زوج يشاطرها مرحلة الحياة,, وأطفال يمرحون فتجد في صحبتهم ذلك الجو الرطب الندي,,، (4) ويلاحظ في هذه الفقرة سيطرة ضمائر التكلم بما يشير عن إحساس جين القوي بمأساتها وضعفها، وهي المرأة الضخمة الجثة كما وصفها الكاتب، وفي ذلك (تقابل) كاشف على مستوى الشخصية المفردة يتآزر مع (التقابل) المحوري في بناء الرواية، داعماً لتشكيلها الفني الروائي.
وفي لحظة كاشفة أخرى بين جين وأمل، تبوح جين بكل ذلك، وقد شاهدت فيما سبق فيلما سينمائيا يقدم صورة مشوهة للرجل العربي، لكنها تصف لها زوجها عبدالمحسن وحياتهما كما رأتها: (,, إنه نمط فريد يكشف زيف الفيلم الذي رأيته ومبالغته الممجوجة! لقد حدثتني أمي عنك وعنه، وأنه:
لا يتعلق إلا بك،
ولا ينظر إلا إليك،
ولا يفكر إلا فيك،
أنت وحدك عالمه، وحدك دنياه، هنيئاً لك به، بل هنيئاً له بك! فأنت لا تقلين وفاء وإخلاصاً عنه!! لن أجاملك,, إنني أحسدك على زوج كهذا، ملأ عليك البيت دفئاً وحباً وحناناً,, وضجيج الطفولة الصاخب الحلو يعطر كل ركن من أركان المنزل,, فأينما كان لك المنزل وكيفما كان,, فهو منزل الأحلام والسعادة,, ومهما يكن الأمر,, فالمرأة لا يمكن أن تفضل الصديق على الزوج، إن في المرأة طبيعة حب الاستقرار، والزواج يعني لها كل شيء) (5) .
وفي هذه الفقرة السابقة نلاحظ سيطرة ضمائر الخطاب، بما يوضح قوة شخصية أمل، وما تتمتع به من استقرار، وإن كانت جين هي التي تكشف عن ذلك، لكن هذا المسلك اللغوي يعكس في المقابل تعاسة جين وتطلعها لهذا المستوى من السعادة والاستقرار، وأملها فيه، ولكن أنى لها؟.
بذلك يتأكد (التقابل) من خلال الشخصيات بوسائل عدة، منها الحوار وتدفق تيار الوعي كما سبق، كما يتجلى مرة أخرى عن طريق (المناجاة) عندما لفت نظر أمل اهتمام جين (بمناير) ابنتها فتحدث نفسها بذلك قائلة:,, من حقها إذن أن تحزن,, إنها تعيش أزمة نفسية عنيفة، ربما كان مرأى ابنتي هو الفتيل الذي فجر تلك الأزمة في روحها ومشاعرها، هي الآن ولاشك تنظر الى سنوات الحياة الماضية على أنها سنوات الفرص الضائعة التي لم تستغلها لتأمين بقية عمرها, إن ضغط العصر هو الذي دفعها الى الاعتقاد أن التأمين المالي هو كل شيء، وها هي ذي تأخذ نفسها بالتقشف والتقتير، ولعلها استطاعت ان تجعل لها رصيداً طيباً في المصرف.
لكنها الآن تكتشف أن الرصيد الحقيقي للمرأة والرجل على السواء أن يضمهما بيت الزوجية، ففيه وحده تتحقق إنسانية كل واحد من الرجل والمرأة على السواء (6) .
ويؤكد التشكيل اللغوي هنا من خلال سيطرة ضمائر الغياب، غياب السلوك السوي عن حياة جين، كما تتأكد المفارقة بينها وبين أمل، لتتضح الفوارق بين حياتين وبيئتين وحضارتين.
وامتداداً لما سبق من الكشف عن الفروق والتباينات، واعتمادا على التقابل والموازنة كآلية نقدية، تلفت الرواية النظر الى حقوق الإنسان ومكانته بصفة عامة، والمرأة وكبار السن بصفة خاصة، فجين قد انصرفت عن الزواج لصعوبة الوصول الى زوج يتحقق معه وفي كنفه دفء الحياة الزوجية المأمولة، مما اثار موقف المقارنة لدى أمل بين المرأة العربية المسلمة والمرأة الأمريكية؛ فإذا كانت المرأة في الغرب طالبة فهي في بيئة الكاتب مطلوبة، وهي اذا كانت في الغرب تُنال بوجبة عشاء، أو تخاصر في قاعة رقص ماجن، فهي في بيئة الكاتب مصونة يتلهف الرجل عليها، ويتيه شوقاً لرؤيتها، بل ويبذل مجهودا ماليا كي يقدمه لأهلها عربونا على صدقه في الزواج منها، وهو ما يسمى بالصداق، وهي إذا تزوجت الرجل تشعر بأنها ملكة متوجة في منزلها, وهو يغار عليها,, الخ، وغير ذلك مما قد لا يكون متحققاً للمرأة في الغرب، في هذا المجتمع الأكثر تحضراً وتقدما، بل إن جين نفسها تقرر أن الشعب الأمريكي هو من أكثر شعوب العالم استهلاكا للأسبرين، وما أكثر المرضى النفسيين الذين يرقدون في المستشفيات، وذلك لانتشار القلق والاضطراب، وعدم التوازن النفسي (7) .
وإذا كانت جين قد هجرت أمها الكبيرة السن برغم حاجتها إليها، فإن المرأة بل الرجل يزداد قيمة وقدرا عند أبنائه وبناته في البيئة العربية المسلمة، كلما كبرت سنه، ووهن عظمه، لدرجة أن نفوذهما الرجل والمرأة المسنين يغدو أقوى، ورأيهما الذي هذبته التجربة، ينال احتراما اكثر، بجانب ما يستشعره الأبناء من سعادة ومودة وهم يقبلون أيدي آبائهم وأمهاتهم، بل إن السعادة الأبدية في الآخرة لتنطلق في نظر أولئك الأبناء من الطاعة والحب والرعاية لهؤلاء الآباء والأمهات (8) .
ويدعم دقة رسم شخصيات الرواية كل ما سبق من غايات إنسانية، وتباينات فكرية، وهي دقة لا تنبني على تركيز بناء الشخصية كما في الرواية التقليدية عند بلزاك وإميل زولا وغيرهما، بل تنداح هذه الملامح خلال بناء الرواية كلها في كثافة مشكلة لأبعادها المختلفة، التي تذوب برغم كثافتها في أرجاء النص، والرواية بذلك ذات صلة وثيقة بمفهومها الجديد عند كافكا وأندريه جيد، وناتالي ساروت وآلان روب جريبه (9) وغيرهم.
وتتجلى ملامح هذه الدقة في توظيف (العلمية) بالنسبة لهذه الشخصيات؛ فعبدالمحسن شخصية مدورة فنيا، غنية بالملامح والصفات الإسلامية، ليس فقط لأن خير الأسماء ما عبد وحمد كما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لأنه علم ايضا يتكون من (عبد) مما يوحي بخضوعه لله سبحانه وتعالى و(المحسن) الذي لا حدود لإحسانه وعطائه، وغير ذلك مما يتوافق مع ما يتمتع به عبدالمحسن من تقوى وشهامة، وإخلاص وأريحية، جعلته على علاقة سوية مع من يحتك بهم: كزوجته، وأبي راشد صديقه، وابن خالته وليد، بل والمغني الأمريكي الذي أسلم، وصاحبة المسكن وابنتها.
ولكن كم كان يتمنى المرء مزيداً من الاستثمار لعلاقة المخالفة بينه وبين الدكتور بهاء حنا، للكشف عن ثراء شخصيته بصورة أكثر فاعلية وإيجابية من مجرد جعل المحاضرة التي ألقاها عبدالمحسن رداً على د, بهاء حنا تستغرق الفصل الثامن من الرواية كلها، فبدلا من ذلك كان يمكن ان يجعله في نقاش وحوار مع الدكتور بهاء حنا بعد ان استمع الى محاضرته التي لمز فيها بعض قيم الاسلام، لكن ربما كان اهتمام عبدالمحسن بإبراز محاسن الإسلام ومزاياه في تحقيق الأمن والأمان للمجتمع قد شغل المؤلف عن ذلك.
يضاف الى ما سبق موقف عبدالمحسن السلبي تماماً، في مواجهة التهديد والسرقة، حتى إنه لم يكلف نفسه إبلاغ الشرطة عن الواقعة.
أما (امل) زوجته فقد كان لها من اسمها ودلالته الشيء الكثير، حيث عاونت زوجها على تحقيق كل آماله وطموحاته، بتهيئة البيئة الصالحة للعمل والمذاكرة، بل ونشر مبادىء الدين الإسلامي، كما كانت سبباً في تحقيق أمنية صاحبة المسكن أن تعود لها ابنتها جين، وتقر عينها بها، بل إن جين نفسها بسبب أمل قد تغير مسلكها من أمها، وأطالت مدة بقائها معها، حتى ولو كان ذلك بسبب تعلقها بمناير الطفلة، إشباعاً لعاطفة الامومة لديها، بل لقد كانت علاقة أمل بغيرها من نساء المبعوثين والمسلمين، إيجابية، تجلت في حرصهم على وداعها عند مغادرة أمريكا بعد انتهاء البعثة، وإن كانت ملامح ثرائها لم تتضح في هذا المجال كما اتضحت ملامح وصفات زوجها عبدالمحسن، كشخصية مدورة.
ولقد كان ميلاد سعد ابنهما,, مفاجأة للقارىء، دون تسويغ فني، ربما أتى الكاتب بهذا الميلاد كجزء من الحدث ليؤكد البعد الزمني للرواية، ويجسد دفء العلاقات الاسرية الاسلامية الذي لفت نظر الفتاة الأمريكية جين، وتمنت لحياتها نظيرا لها في ظل زوج سوي، واسرة سعيدة.
(وابوراشد) صديق عبدالمحسن، الذي ربطته به علاقة تماثل، فهو تقي شهم مخلص، وقد عاون عبدالمحسن في بناء المسجد عن طريق تعريفه بالثري السعودي الذي تكفل بنفقات بناء هذا المسجد، كما كان ابوراشد رشيدا في تفكيره، ومرشداً معينا لعبدالمحسن على أوجه الخير، وتحقيق الروابط والمودة بين المسلمين في منطقتهم.
أما (وليد) فبرغم أنه شاب لكن ميلاده النفسي والفكري السوي لم يتحقق الا في أمريكا، على عكس ما توقع هو، فمن حيث اراد الانفلات والمروق إذ به يصبح ملتزما، وكأن ما سبق من رغبة في الشر غطاء، ما لبث أن انكشف لتظهر خيرية هذا الشاب في الإقبال على عبدالمحسن ابن خالته، وتمثل مسلكه السوي، كما يظهر التحول في مقارنة وليد لنفسه بحال المغني الامريكي الذي أسلم، مما جعل وليد يغير الولاية التي يدرس بها، التماسا لمكان أفضل لما أصابه من متغيرات سوية، وهكذا يتفاعل الزمان والمكان في نفس وليد ليشب في سلم الفضائل والخير، في منطقية فنية مقبولة, وإذا كانت معالم خيريته وتحولاته نحوها قد اتضحت، وسوغها الكاتب فنياً، فإن معالم توجهه نحو الشر لم تتجل في صورة عملية فعلية، وإنما استحوذتها الأقوال لا الأفعال.
وتبقى شخصية المغني توني الأمريكي الذي أسلم وأصبح داعية للإسلام، وهو تحول إيجابي، يضاعف من تحقيق هذه الرواية لإيجابيات الأهداف المنوطة بها، لكن هذا التحول يعوزه المنطقية الفنية، إذ كيف تسهم عدة كتب دعوية إسلامية في هذا التحول القوي السريع, وبرغم ذلك فإن هذه الشخصيات بإيجابياتها وسلبياتها، ومشاعرها بالقوة أو الفعل، لتتآزر في تشكيل بنية الرواية الفنية تشكيلا كشف عن نضجها.
واللغة في أي عمل روائي مهمة جداً، فبها تتحدث الشخصيات، ويتجلى المكان والزمان والحدث والاهداف، وغير ذلك من عناصر العمل الروائي، وهي لغة يجب أن تتميز بالشعرية، وشدة التكثيف، وقوة الإيحاء، بغية تجسيد نظام لغوي شديد التماسك (10) , برغم ان هذه اللغة لن تكون كالشعر.
لذلك فاللغة في هذه الرواية تستثير مشكلة الانسجام والاتساق بين أساليب السرد والحوار والوصف، وهو ما يجب أن يكون جليا في اي رواية.
ولقد حرص الكاتب على ان تنساب لغته انسياباً ينمو خلاله الحدث، وتتفاعل داخله الشخصيات، وتتوطد العلاقات، كما وضح في اسلوبه مجاهداته في اختيار الكلمات، لتحقيق أسلوب فني بعيد عن التسطيح الى حد كبير، لكنه قد وضحت اساليب اربعة في الرواية، اسلوب الكاتب الذي أشرنا إليه، وأسلوب الشعر الذي تجلى في اكثر من خمسة مواضع، وأسلوب الحديث الشريف الذي ظهر في ثلاثة مواضع، ثم أسلوب القرآن الكريم الذي تجاوزت استشهادات الكاتب به عشرة مواضع، وهذه ميزة أسلوبية فالقرآن الكريم أرقى الأساليب، لكن هل بذلك يتحقق الانسجام اللغوي، والتناسق في أساليب الرواية اي رواية ؟ ذلك مطلب فني لغوي ملح.
حقا إن من معالم التشكيل الإسلامي لأجناس الأدب المختلفة الاستفادة من القرآن الكريم والحديث الشريف وتراث العرب من الشعر والنثر، من هنا فإن التناص مع هذه المصادر يجب ان يحقق الانسجام والتناسق، بالالتحام بينها وبين أسلوب الكاتب في روايته، حتى تصبح هذه الاقتباسات والاستفادات جزءا من بنية النص الروائي، مما يتطلب من الكاتب اي كاتب الإعلاء من أدبية النص، بمقدرته على التشكيل الروائي (الإسلامي)، ومضاعفة خبراته في صياغة السرد والحوار والوصف، تلك الخبرات التي يجب أن تتجاوز كون النص القرآني زينة أسلوبية، ليصبح بنية نصية تحقق كل ما يراد من النص الروائي الاسلامي من إبداع وفن وفكر مرده امتزاج والتحام المضمون بالشكل.
وبرغم ما سبق، يبقى هذا العمل الأدبي (دفء الليالي الشاتية) من نماذج الأدب الإسلامي التي نعتد بها في تمثيله، قلباً وقالباً.
* أستاذ بكلية اللغة العربية بالرياض.
هوامش:
(1) د, عبدالله بن صالح العريني دفء الليالي الشاتية دار إشبيليا للنشر والتوزيع الرياض 1420ه.
(2) انظر للمؤلف الأدب الإسلامي قضية وبناء ط 1403ه 1983م مكتبة عالم المعرفة جدة ص 13.
(3) انظر عبدالله بن صالح العريني (دفء الليالي الشاتية) ط 1420ه ص 30.
(4) السابق نفسه ص 139.
(5) انظر السابق نفسه ص 144.
(6)السابق نفسه ص 141.
(7) السابق نفسه ص 145، 146، 147.
(8) السابق نفسه ص 148.
(9) انظر د, عبدالملك مرتاض في نظرية الرواية (عالم المعرفة) سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت العدد 40، شعبان 1419ه، ديسمبر 1998م ص 70و 71، 72.
(10) انظر: نظرية الرواية ص 126: 130.
|
|
|
|
|