| مقـالات
قلت في مقال سابق إن مشكلة القبول أو أزمته، مشكلة مركبة، ويفترض ان نتعامل معها ضمن خطوات متدرجة، تضع في الاعتبار إمكانات الواقع وحاجاته، والمستقبل ومؤشراته، وما يحمله من هموم اوتحديات.
إن الحلول المؤقتة تبدو في الظاهر وكأنها علاج لازمة عابرة، ولكنها تغفل عناصر مهمة تتفاعل في السياق وترتب لمشكلات اكثر تعقيدا وتداخلا وصعوبة.
ان المشكلات الصعبة تتطلب جرأة على المواجهة وقدرة على التخيل وتفكيرا جادا في الحلول طويلة الأجل، واعني بها الحلول التي تستوعب بقدر كبير افرازات الواقع وما يمكن أن تؤدي اليه في المستقبل.
إن آفاق الحلول تتبلور عندما ندشن حوارا جادا حول المشكل، اسبابه وطبيعته ومايمكن ان يؤول اليه في المستقبل القريب والعاجل.
والحوار هو الأداة الرئيسية لانضاج الظروف المساعدة على تجاوز الأزمة,.
ان الجميع يعلم ان هناك مشكلات ذات علاقة بسياسة القبول في الجامعات، ومعظم الناس يشعرون بان البحث عن مقعد دراسي في مؤسسات التعليم العالي عملية مضنية في السنوات الأخيرة، ويزداد الرقم من عام لآخر وبمعدلات متصاعدة, والقول بغير هذا مجرد مجاملة لايصدقها الناس ولايعززها واقع الحال.
ليس عيبا ان نعترف بمشكلة، ولا يضير ان نتحاور حول آفاق الحلول ونختلف حول الاسباب او الكيفية التي يمكن لنا من خلالها الخروج من الازمة بحلول ناجحة وممكنة وقابلة للتطبيق.
وفي تقديري ان من بديهيات التعامل مع مشكل ما هو ابتداء تحديد أسبابه الرئيسة، ومعرفة الأسباب تقود في التحليل النهائي الى تصور للحلول قصيرة المدى وطويلة الأجل.
ولعلنا هنا نستعرض اهم الاسباب على النحو التالي: 1 شهد عقد الثمانينات الميلادية تراجعا في اسعار البترول مما رتب لاستنزاف الاحتياط، ثم جاءت أزمة الخليج الثانية وما كلفته من اعباء مالية، وتبع ذلك ركود في اسعار البترول طيلة عقد التسعينات، وهنا نشأ العجز في الميزانية العامة للدولة واضطرت الدولة الى الاقتراض من البنوك المحلية، ومع تراكم الدين الداخلي، اصبح الحل المؤقت والمتاح هو الضغط في الانفاق العام، وهذا الضغط خضعت لجميع اجهزة الدولة بما في ذلك مؤسسات التعليم العالي.
الضغط في الانفاق ترتب عليه فيما يخص الجامعات بالذات عدم القدرة على التوسع في القبول لسبب معقول، وهو عدم توفر الاعتمادات المالية التي تساعد الكليات على التوسع في برامجها او زيادة طاقتها او اعداد الطلاب فيها.
2 في العقدين الأخيرين لوحظ أن معدلات زيادة السكان في المملكة في نمو مضطرد، ومع نمو الوعي بين السكان، اصبح الغالبية يحرصون على تعليم الابناء والبنات، ومن هنا لوحظ ارتفاع سريع في اعداد المتخرجين من الثانوية العامة، دون أن يقابل ذلك زيادة في قدرة مؤسسات التعليم العالي، مما رتب للازمة التي نحن بصدد الحديث عنها.
3 مع بداية الطفرة، كان القطاع العام (المملوك للدولة) يستوعب كافة الخريجين بوظائف جاهزة ومرتبات مغرية، وفي المقابل نشأ قطاع خاص مزدهر يعتمد على استقدام قوى عاملة بأجور رخيصة وقياسية للكسب السريع.
ومع تضخم اجهزة القطاع العام، وضغط الانفاق، اصبحت فرص العمل غير متوفرة في سوق العمل للمتخرج السعودي من مؤسسات التعليم العالي، مما نشأ عنه احساس لدى البعض بانه لاضرورة للتوسع في القبول طالما أن السوق لايستوعب أو لا يتحمل هذه الأعداد.
إن هذه الاسباب لازالت قائمة، ولكن التعامل معها ليس صعبا متى ما توفرت إرادة الحل، وفي الوقت نفسه وضع الحلول في سياق خطوات متدرجة، تنتقل من العام الى الخاص، ومن السهل الى الاصعب.
وللانصاف هنا اسجل لوزارة التعليم العالي اهتمامها في البحث والدراسة، وخلال السنوات الأخيرة قامت بمجهودات في محاولة لتصور المشكلة والبحث عن حلول، وان هناك الكثير من الآراء والافكار الممتازة المدونة في محاضر لجان اوتوصيات ندوات، والمطلوب فقط هو تكوين فريق عمل يستخلص مما لديه من محاضر ودراسات وابحاث خطة متدرجة يمكن لها البدء في التطبيق فور اقرارها من مجلس الوزراء.
وما سأذكر في هذا المقال هي بعض الأفكار التي سمعت من أكثر من صديق انه تم تداولها ودراستها بعناية، ولانها تتضمن الحلول فاني اشدد عليها هنا علها تجد وسيلة للتطبيق.
ان الخطوة الاولى في الطريق الى الحل الشامل ترتبط بتحديد احتياجات التنمية، ومتطلبات سوق العمل في السنوات القادمة، وهذا التحديد يفترض قراءة علمية للواقع, وهناك عقبة معلومات، إذ لابد من توفر معلومات احصائية دقيقة عن سوق العمل وما يفرزه من حراك وتغير في ضوء المتغيرات الاقتصادية الجديدة، والتي تسعى الى فتح السوق للاستثمار الاجنبي والبحث عن مصادر اخرى لتنويع الدخل, ان توفير معلومات دقيقة كهذه يحدد نوع المهارة المطلوبة، وطبيعة التخصصات، وكذلك تحديد آفاق التوسع في مؤسسات التعليم العالي، واذا كان مجلس القوى العاملة لديه مركز معلومات تتوفر فيه قاعدة بيانات عن سوق العمل، فان مكاتب العمل هي الاخرى لديها معلومات عن المهن المطلوبة او الوظائف الشاغرة في القطاع الخاص، كما أن مصلحة الاحصاءات العامة هي الاخرى لديها معلومات احصائية شاملة,والمطلوب في تقديري هو توحيد هذه المعلومات وقراءتها قراءة علمية تسمح بتصور حاجات سوق العمل ونوع المهارات المطلوبة الآن، والمتوقع لها في المستقبل ان تصبح مهمة في ضوء توجه الدولة نحو السعودة, ان دراسة كهذه ستحدد تقليص بعض التخصصات لحساب التوسع في تخصصات اخرى، او ايجاد اقسام جديدة.
الخطوة الثانية ذات علاقة بتصميم برامج تضع في اعتبارها تكوين شخصية الشاب السعودي، اي تعرف نقاط الضعف لتجاوزها فمن معايير تضع في الاعتبار التأهيل السلوكي, فالشاب الملتحق حديثا في احدى مؤسسات التعليم العالي هو من نواتج جيل الطفرة، أي الجيل الذي لم يعش تجارب وخبرات ماقبل الطفرة، عندما كان العمل قيمة مهنية كبرى، والمنافسة والجدية والاصرار على التفوق معايير صارمة للنجاح, فالطفرة وفرت سيولة نقدية وفرص عمل سهلة، مما ترتب عليه نوع من الاسترخاء او الكسل غير المسئول، وهذا يعني ان يكون التعليم العالي متميزا في المنافسة، وليس شرطا ان تكون نسبة النجاح مرتفعة، فالبقاء في الجامعة للاصلح، كما هو الحال في سوق العمل.
الخطوة الثالثة ذات علاقة ببناء استراتيجية خاصة بالتعليم الاهلي، اي دعوة القطاع الخاص لكي يستثمر في التعليم العالي ضمن شروط ومواصفات ودعم وتشجيع ورعاية من الدولة، ففي مراحل التأسيس تصبح الدولة داعمة، عن طريق توفير مقرات، مساعدة في البناء والتجهيز من مكتبات ومختبرات، تأتي على شكل هدايا أومنح او مساعدات, كما يخصص نسبة من الطلاب تتولى الدولة تسديد الرسوم عنهم على شكل منح دراسية، وهكذا إذ من المعروف ان الاستثمار في التعليم العالي غير مضمون النتائج، والمستثمر عادة يبحث عن الربح، وفي سنوات التأسيس تصبح الكلية او الجامعة بحاجة ماسة الى مصاريف مكلفة، وعندما تتجاوز مرحلة التأسيس وترسخ سمعتها العلمية تصبح قادرة على تمويل ذاتها مع عائد استثماري يريح المستثمر, ويفترض ان لانتخوف من المستوى، فهذه المؤسسات الأهلية ستخضع للتقويم العلمي المستمر كما هو الحال في كل بلاد الدنيا.
الخطوة الرابعة ذات علاقة بالابتعاث، فهناك جامعات عربية تقدم تخصصات ممن بحاجة لها وهي ايضا على مستوى اكاديمي جيد، وتكلفتها معقولة، ويمكن لنظام ابتعاث يرتكز على المساعدة وليس تغطية كافة النفقات، مثل تسديد الرسوم الدراسية والكتب وما في حكمها في حين تتولى الاسرة دفع نفقات الاقامة,, الخ ان يحقق فرصا كثيرة لطلاب راغبين في الدراسة ولديهم القدرة على التقشف وتدبير النفقات، وبرنامج كهذا قد يندرج ضمن الحلول المؤقتة الى ان يتم تطوير مؤسسات التعليم العالي، الحكومية والاهلية على حد سواء.
وأكاد أجزم أن بمحاضر اللجان وتوصيات الدراسات المتوفرة في وزارة التعليم العالي أفكار أخرى كلها تساعد على التعامل مع ازمة القبول بمنظور يتسم بالمرونة والقدرة على الحركة, والافكار عادة تبقى حبيسة الارشيف حتى يتم وضعها في سياق التطبيق, وعقبة التطبيق معروفة سلفا، واعني بها عقبة التمويل,, ولابد ان ترفع التوصيات والاقتراحات الى مجلس الوزراء الموقر لاتخاذ قرار ملزم للتنفيذ بعد المداولة المطلوبة, ومن هنا يمكن البدء بتدرج حسب ما هو متاح ماليا، وفي ظل امكانات الدولة، واذا لم نبادر بالتحرك السريع فان المشكلة ستتفاقم والتعليم سيتراجع، والخاسر هو الاقتصاد السعودي والمواطن السعودي.
التعليم بكافة مراحله هو استثمار بشري، عائده دائما ترسيخ لقواعد استقرار، وحركة دائبة لازدهار اقتصاد، وتثبيت لنسيج اجتماعي، وتحقيق لمجتمع عادل تطلع افراده قد تفوق امكاناته، ولكن المطلوب دائما هو التفكير بالنتائج، والحوار الحي النابض بالصدق والاخلاص لتذليل الصعوبات وتوفير آفاق للحلول التي تنسجم في التحليل النهائي مع تطلعاتنا كلنا مسئولين ومواطنين.
وللحديث بقية
|
|
|
|
|