| مقـالات
هناك فئة من رجال الفكر من شعراء وكتاب ومؤرخين جعلوا الرحلة ديدنهم والترحال مطيتهم، لا يستقرون في بلد الا بمقدار الاستعداد للرحيل، مع انهم لا يمتهنون التجارة وانما مهنتهم الاشتغال بالفكر، من نظم شعر او تأليف كتب، وهم في رحلاتهم في تعلُّم دائم وتعليم مستمر، فتلك الاسفار لم تشغلهم عن طلب العلم وتعليمه، فاذا ارتحل احدهم صحبته كتبه التي قد تبلغ الأحمال، وحيث إن اولئك موجودون في كل زمان، ومن الصعب حصرهم، فنشير الى بعضهم، ليقف القارئ على بعض أعلام المغتربين، فمن اولئك شاعر العربية المقدم، وحكيمها الفذ احمد بن الحسين أبو الطيب المتنبي، فمنذ أن خلع الصِّبا ودخل سن الشباب، وهو في رحلة دائمة، وغربة عن المدينة التي نشأ فيها (الكوفة) فقد خرج الى بادية السماوة في أول شبابه، وتنبأ بها وكثر اتباعه، وقد أوت به غربة الصحراء الى غربة السجن، حيث خرج اليه عامل الاخشيد على الشام، وأودعه سجنه، وبعد خروجه من سجن لؤلؤ لم يعد الى الكوفة لان الغربة قد اخذته، فقد اتجه الى حلب، وبقي في جوار اميرها سيف الدولة الحمداني سنوات، ومع ان الاقامة في حلب ملائمة لأبي الطيب الا ان شاعرنا قد جعل الغربة منهجه، فقد شخص الى مصر، تاركاً ما ألفه الى غربة جديدة يجهل نتائجها، ولكنها الاسفار تأسر صاحبها فيهيم بها، فقد انتقل المتنبي الى بلد الاخشيد، فأقام بها مقام الغريب، يعد الايام والليالي، وهو بين الرجاء والأمل، ثم انتقل منها الى بلاد فارس، في غربة جديدة امتطى في سبيلها أديم الصحراء، وقد اقام في بغداد إقامة الاستراحة لأنها في طريقه، ثم تركها إلى أرجان، فأقام بجوار ابن العميد، ولكنه لا يرغب في الإقامة الطويلة فقد غادرها إلى شيراز، وأقام بها مدة، ثم خرج منها ومعه امتعته وكتبه، وهو لا يعلم أن أمامه غربة بعيدة المدى، وهي غربة الموت, ومن المغتربين محمد بن عبدالله الطنجي ابن بطوطة، فقد خرج من مدينته التي ولد ونشأ بها (طنجة) وهو في أول العقد الثالث من عمره، فتنقل في بلاد المغرب، ومنها انطلق إلى مصر، ثم تركها إلى بلاد الشام، فالحجاز، وزار اليمن، والبحرين، والعراق، وبلاد فارس، وبلاد الترك، وبلاد التتر، وبلاد الصين، والهند، وجاوة، وقد رجع إلى بلاده المغرب الأقصى بعد ما يقرب من ثلاثين سنة، وقد دوَّن مشاهداته في كتابه الموسوم ب (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) والمعروف برحلة ابن بطوطة, ومنهم محمد بن العباس الخوارزمي، فقد ولد ونشأ في خوارزم، ثم اختار الغربة لتصحبه في سني عمره، فقد خرج من خوارزم في أول شبابه، فاتجه إلى العراق، وأقام بها إقامة المسافر، ثم تركها إلى الشام، فأقام في حلب، في كنف سيف الدولة، ولكن الرغبة في الرحلة لم تدعه يطيل الإقامة، فخرج من حلب وقصد بخارى، ومع أن صاحبها البلعَمي قد أكرمه إلا أنه خرج منها وقصد نيسابور، وأقام بها بجوار أحمد الميكالي، ثم خرج منها إلى سجستان، التي سجن فيها بسبب هجائه لصاحبها طاهر بن محمد، وقد قال في سجنه (وقعت بفخ الخوف في يد طاهر وقوع سُلَيك في حبائل خثعم) ثم خرج من سجنه، وقصد طبرستان، التي سجن بها ايضاً، وبعد خروجه من سجنه الثاني شخص إلى أصبهان، ومنها إلى شيراز، فهو في غربة لا تعرف الأوبة، ومع غربته فقد نظم الشعر، وأجاد النثر، وله من الحكم المنقولة عنه في شعره ونثره الكثير، من مثل قوله: (الشكر على قدر الإحسان, العُشرة مجاملة لا معاملة, الاعتذار في غير موضعه ذنب, الآباء أبوان، أبو ولادة وأبو إفادة) ومنهم أحمد بن الحسين بديع الزمان الهَمَذَاني، فقد غادر بلده (هَمَذَان) في مقتبل شبابه، وتوجه إلى جرجان، فأقام بها مدة، ولكن الغربة لم تدعه يهنأ بالإقامة فخرج منها متوجهاً إلى نيسابور، فمكث بها زمناً، وأملى مقاماته على طلابه، في زمن إقامته بها، وناظر الخوارزمي، فأفحمه، وتقدم عليه، وطابت له الإقامة، ولكن الغربة لا تدعه يستقر في بلد، على الرغم من المنزلة العالية التي نالها بعد مناظرته لخوارزمي، فخرج من نيسابور، وتنقل في بلاد خراسان، وسجستان، وغَزنة، ثم استقر في هراة، ولكن غربة الموت اخذته في تلك البلدة التي استقر بها, وبديع الزمان لم تشغله الأسفار عن التدوين بالكتابة، فقد اشتهر بمقاماته، ورسائله، وشعره, هذه فئة من المغتربين، الذين اقترن إنتاجهم الفكري بالغربة والتنقل.
د, عبدالعزيز بن محمد الفيصل
|
|
|
|
|