| مقـالات
هلا تخيلت، يا تُرى، ماذا سوف (ترى؟!) فيما لو (تجسدت) لحظات وداعك بكل أبعادها وتناقضاتها الكئيبة الحزينة في هيئة صورة ملونة التقطتها آلة تصوير رقمية حديثة جداً؟ حسناً، دعني (أحمض!) هذه الصورة في ذهنك بالقول إن العرب تقول عن صورة الوداع هذه: لو كان للفراق صورة لراعت القلوب وهدَّت الجبال! , الآن وقد اتضحت الصورة، أجبني: لماذا دائماً ما ترتبط النهايات ذات الأبعاد الانسانية بالحزن واللوعة؟ لماذا يمثّل الوداع، حتى ولو كان مؤقتاً، لحظات صدق ومكاشفة عاطفية بين المُودِّع ونفسه وبين المُودِّع والمُودَّع,, لحظات تتجلى فتهيج المشاعر، وتكلم الأفئدة، وتستثير دموع المحاجر، وتستنسخ القوة (المصطنعة) ضعفاً؟ تأمل ما يلي (وأجب بعد التأمل!):
ودِّع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعا أيها الرجل! |
ما الذي أربك مشاعر شاعرنا هذا، فجعله يجدف (نفسيا) متذبذبا بين يقينه من رحيلها، ولهفته على عدم رحيلها، وبالتالي شكه في قدرته على وداعها؟! باختصار، ما السر في أننا دائما ما نخسر الرهان مع الوداع,,؟
بالمناسبة، وبما أن حزن الوداع (واحد)، فهل هذا يعني أن طرائق التعبير عنه واحدة كذلك أم متعددة؟ في الحقيقة، وحدانية حزن الوداع لاتعني بالضرورة وحدانية طريقة التعبير عنه، حيث انه من الثابت علميا أن البشر تتفاوت بالنسبة لطرائق تعبيرها عن الحزن وإن كان الحزن واحداً: فهناك من يضحك (مأسوراً)وهناك من يبكي (طليقاً)، وثمة من يدفعه الحزن إلى (الهجوم) على الأكل بنهم وشراهة، مقابل من قد يدفعه حزنه إلى الامتناع عن الأكل كلية، بل قد تختلط الأوراق فتجد من يضحك محزوناً ضحك الآخر مسروراً، وعلى غرار:
فربما صفق المسرور من طرب وربما صفق المحزون من أسف! |
وعليه، فكما أن هناك طريقة (نمطية سائدة) للتعبير عن حزن الوداع وكماهي الحال مع (مودع هريرة!) السابق ذكره فهناك كذلك طرائق وداعية حزينة تتميز بكونها غير نمطية البتة، مما قد يجعلها تبدو أبعد ماتكون عن الحزن رغم حزنها الدفين, فهذا أحدهم يعبّر عن حزن وداعه على غرار (ترك الجمل بما حمل) وذلك باتخاذه قرار مقاطعة الوداع والاستقبال معاً! فتأمله يشرح طريقته بالتعبير عن حزنه (انسحابياً!):
عاقني عن حلاوة التشييع ما أرى من مرارة التوديع لا يفي أنس ذا بوحشة هذا فرأيت الصواب ترك الجميع! |
وهذا (آخر) حزين كسابقه، وإن كان حزنه على غرار مقولة (الطمع!) القائلة: (اشتر واحدة واحصل على الثانية مجاناً),, فإليكم إياه وتعبيره غير النمطي عن حزن وداعه:
أرأيت من يرضى بفرقة إلفه أنا قد رضيت لنا بأن نفترقا حتى أفوز بقبلة في خده عند الوداع ومثلها عند اللقاء! |
ومما يزيد من غموض حزن الوداع غموضا، قدرته كما يبدو على قلب العديد من المفاهيم السائدة لدينا (ثقافياً) والتي من ضمنها بكاء الرجل الذي من المفترض ثقافياً ألا يبكي، بل ومنها كذلك مافي الوداع من (تبادل أدوار) فيما بين الرجل والمرأة، حيث ان السفر غالباً ما يكون للرجل، ولكن سرعان ما تنعكس هذه المعادلة في مواقف الوداع، فيبدو الرجل هو المودع (غالباً)، مما يعني أن المرأة هي المسافرة، على الأغلب! لهذا السبب بالذات، فلقد أصررت إلا أن أجد امرأة تودع رجلاً وليس العكس فقط لأجد (شاعراً عامياً!) يبدو وهو (متورط!) بل ومجزأ بين شدة وطء حزنه للرحيل عنها، وحزنه لحزنها على رحيله، وخشيته (من اقلاع طائرته!)، فخذه وهو يتوسل إليها ويرجوها بأن تستجمع قواها لتنهض فتودعه:
حبيبتي كِفِّي دموعك والأشواق كِفِّي دموعك وانهضي وادعيني ترى السفر لقلوب الأحباب حرَّاق واللي بقلبك يا هوى البال فيني! |
,,, حقا، فالحياة ليست سوى لوعة وداع وبهجة لقاء وبينهما إنسان,, فوداعا إلى لقاء!
*للتواصل - ص,ب4206 رمز 11491 - الرياض
|
|
|
|
|