| مقـالات
لعل مصطلح الشرعية الدولية لم يستعمل بكثرة كما استعمل هذه الأيام,, لكنه على كثرة ظهوره مصطلح يتسم بالغموض والتلون,, إنه مصطلح حربائي، لا تستطيع أن تفسر نتائج استعماله إلا اذا ربطتها بالنظام العالمي الجديد,, المعتمد على أحادية القطب المهيمن على السياسة الدولية,, مع أن المفروض أن تكون قرارات الشرعية الدولية التي تصدر عن هيئة الأمم المتحدة مستندة الى قواعد القانون الدولي، والى مقاييس الأخلاق ومبادىء العدالة والموضوعية,, وبناء على ما تقتضيه مصلحة السلم والتعاون بين الشعوب.
إن النقد الذي يوجه الى الشرعية الدولية هذه الأيام ليس في عدم اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب,, وإنما يكمن في ازدواجية المعايير التي تلتزم بها هذه الشرعية, فبينما نجد الاهمال المتعمد لتنفيذ بعض القرارات التي اتخذتها الأمم المتحدة عبر مؤسساتها المختلفة وعلى رأسها مجلس الأمن,, والتكاسل في تطبيقها، نرى أن قرارات الشرعية الدولية لا تتسم دائما بذلك بل تجد في كثير من الأحيان استجابة سريعة للتطبيق فما أن تصدر القرارات حتى تأخذ طريقها الى التنفيذ، إما من خلال الحصار الاقتصادي أو المقاطعة الكاملة، أو الحرب المعلنة بالأسلحة الثقيلة المتطورة وارسال الرجال مع العتاد,, أو غير ذلك.
ويعجب المتابع من هذا التناقض ويتساءل لِمَ لِم تنفذ تلك القرارات ولِمَ نفذت هذه؟ وهل تحولت قرارات الشرعية الدولية الى أداة في يد الأقوى يطبقها حين يريد، ويثبطها ويفرغها من معناها حين يشاء.
ان قضية فلسطين خير مثل على كثرة ما أصدرت الشرعية الدولية من قرارات في صالح العرب حتى ملأت أضابير الأمم المتحدة,, إلا أن أيا من هذه القرارات الملزمة للجانب المعتدي لم ينفذ بالقوة,, وتركت نهبا للغبار ضمن ملفات الأمم المتحدة,, وورقة في مهب الريح في يد العرب المطالبين بحقهم التاريخي والجغرافي في بلادهم السليبة.
والغريب أن أرض فلسطين والقدس منها في القلب قد تزامنت محنتها مع نشوء المنظمات الدولية الحديثة، وكأنما جعل الله تعالى هذه القضيةاختبارا لصدقية هذه المؤسسات، وامتحانا لمدى فاعليتها في المجتمع الدولي، وهل كان القصد منا حقا نصرة المظلوم وردع الظالم، أم أنها وجه من وجوه اللعبة السياسية العالمية.
في 2 نوفمبر 1917م أصدر اللورد بلفور وزير خارجية بريطانيا تصريحا في صورة مذكرة موجهة الى المليونير اليهودي البريطاني روتشيلد يذكر فيها أن حكومة بريطانيا تنظر بعين العطف الى تأسيس وطن مقدس للشعب اليهودي في فلسطين، وأنها ستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، وتضمن التصريح أنه لن يؤتى بعمل ما من شأن الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين .
ولم تكن حكومة بلفور آنذاك تملك شبرا واحدا من أرض فلسطين، إذ تم الاحتلال البريطاني لهذه البقعة فيما بعد, وقبل أن تعين عصبة الأمم بريطانيا منتدبة على فلسطين بما يقارب ثلاثة أعوام, كما أن اليهود كانوا أقلية مقابل العرب مسلمين ومسيحيين في مدينة القدس, ناهيك عن بقية فلسطين.
وقد دلت دراسات فقهاء القانون الدولي على أن هذا الوعد لا يستند على أساس قانوني, وأنه باطل شكلا وموضوعا (1) , فكان ذلك أول انحراف رسمي عن قواعد القانون الدولي في مسيرة القضية الفلسطينية, ومع ذلك فإن هذا الوعد اتخذ أساسا في صياغة صك الانتداب البريطاني في فلسطين الذي صدر عن عصبة الأمم مخالفا المادة 22 من عهد عصبة الأمم نفسها، تلك المادة التي تتعلق بطبيعة الانتداب وأهدافه, كما جاء مخالفا لتعهدات بريطانيا للعرب فيما سمي برسائل الحسين/ مكماهون ومخالفا لمعاهدة بتسبرج سنة 1916م ومعاهدة سايكس بيكو سنة 1916م وفيها جميعا ضمن الحلفاء استقلال فلسطين والبلاد العربية الواقعة تحت الحكم التركي, بل كان مخالفا لكثير من التصريحات البريطانية نفسها، ومنها تصريح رئيس وزراء بريطانيا في 5 يناير 1917م (2) وتصريح اللورد اللنبي عندما احتل القدس في 9 ديسمبر 1917م الذي قال فيه:إن غاية الاحتلال البريطاني هي تحرير فلسطين من الحكم التركي لانشاء حكومة وطنية حرة بها (3) .
ان طبيعة الانتداب أن يكون ذا صفة استشارية إذ ليس له الحق في التصرف بالأرض، أو التدخل في السيادة عليها كما تنص على ذلك المادة 22 من عهد عصبة الأمم، وكما يشير الى ذلك رأي محكمة العدل الدولية الذي يقر بأن الانتداب لا يتضمن التنازل عن الأرض وتحويل السيادة (4) .
ومع ذلك فقد كان من أهم اهداف الانتداب البريطاني تشجيع الهجرة اليهودية الى فلسطين في مجموعات كثيفة، والاستيطان فيها، لتحويل الميزان السكاني لصالح الغرباء المهاجرين مقابل السكان العرب الاصليين, تم ذلك باصرار وبنوع من التجاهل التام للقوانين الدولية، وما تعارفت عليه الديموقراطية الغربية، وبالمنافاة مع البديهي والسائد من قواعد حقوق الانسان ومبادىء حق تقرير المصير، التي تبناها المجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الأولى، والتي تراعي ضرورة أخذ رغبات الشعوب في أي تغيير يتصل بضمها الى دول أخرى، أو في اختيار حكومتها أو تقرير مصيرها (5) .
وفي سنة 1919م بعث الرئيس الأمريكي ويلسون لجنة تحقيق أمريكية الى فلسطين وسوريا للتحقق من رغبات السكان، وكان اسمها لجنة كنج كراين وقد قدمت تقريرها في 28/8/1919م وكان من فقراته:
اجتمعت كلمة المسلمين في فلسطين وهم حسب الاحصاء الانجليزي الأخير يبلغ 4/5 السكان على المطالبة باستقلال سورية المتحدة,, وقدرت الأحزاب التي اجتمعت في يافا أن سوريا أهل لحكومة مستقلة بلا دولة وصية, وقد ايد الناس في القدس وغيرها من مدن فلسطين هذا القرار,, إنه لا يمكن اقامة حكومة يهودية بدون انتهاك الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية في فلسطين,, فإذا كان المبدأ الذي أعلنه الرئيس ويلسون في 4 يوليو 1918م كواحد من الأهداف الأربعة للحلفاء سوف يطبق، واذا كانت رغبات سكان فلسطين سيعمل بها فيما يتعلق بفلسطين، فيجب الاعتراف بأن السكان غير اليهود في فلسطين وهم تسعة أعشار السكان كلهم تقريبا يرفضون البرنامج الصهيوني رفضا باتا,, فتعريض شعب هذه حالته النفسية لهجرة يهودية لا حد لها، وبضغط اقتصادي واجتماعي متواصل ليسلم بلاده هو نقض شائن للمبدأ العادل الذي أشرنا اليه، واعتداء على حقوق الشعب وان كان في شكل قانوني، ولا ينبغي لمؤتمر الصلح أن يتجاهل أن الشعور ضد الصهيونية في سوريا وفلسطين بالغ أشده، وليس من السهل الاستخفاف به,, والواقع أنه لابد من استخدام الجيوش لتنفيذ بعض القرارات ولكن ليس من المعقول أن تستخدم الجيوش لتنفيذ قرارات جائرة، هذا فضلا عن أن مطالب الصهيونية الأساسية في حقهم على فلسطين المبنية على كونهم احتلوها منذ ألفي سنة, دعوى لا تستوجب الاكتراث أو الاهتمام (6) .
وكان هذا صوتا من أصوات العقل,, يعتمد ما كان سائدا من مبادىء ومثل، ويستند الى قواعد الأخلاق والعدل,, ولكن هذا الصوت ما لبث ان ضاع في خضم الضوضاء الصهيونية، والأطماع السياسية والحسابات الاستراتيجية لدى دول الحلفاء.
وعندما أنهت بريطانيا انتدابها سنة 1948م من جانب واحد دون أن تحصل على موافقة الأمم المتحدة, لم تسلم البلاد لحكومة وطنية، وانما سلمتها للوكالة الصهيونية التي أمدتها بالسلاح والذخيرة ومكنت لها في كثير من المدن، فأخذت تحصد العرب بالسلاح وهم عزل آمنون.
وتبع ذلك اصدار الأمم المتحدة توصيتها رقم 181 في 29 نوفمبر 1947م التي تتضمن تقسيم فلسطين حسب حدود رسمت بين العرب واليهود كما اقترحت تدويل مدينة القدس وعلى الرغم من المآخذ الكثيرة التي يراها فقهاء القانون الدولي على هذا القرار من حيث عدم شرعيته من جهة ومخالفته لميثاق الأمم المتحدة من جهة أخرى (7) فإن الكيان الصهيوني الذي أعلن في 14/مايو سنة 1948م ما لبث أن استولى على الجزء الغربي من مدينة القدس مستوليا بذلك على 80% من مدينة القدس العربية التي لم يشملها أساسا قرار التقسيم، بل كان يعد القدس بشطريها ذات وضع خاص ويقترح تدويلها.
وتلك مخالفة جوهرية لهذا القرار الذي يعده الصهاينة مستندا أساسيا لقيام دولتهم، فأعجب لقرار يؤخذ بعضه ويتشبث به، ويهمل بعضه ولا يلتفت اليه!!
ثم ما لبثت القوات الاسرائيلية أن احتلت الجزء الشرقي لمدينة القدس في يونيو سنة 1967م في عدوان مسلح، وأعلنت فيه على لسان قادتها أنها لن تغادر القدس بعد ذلك أبدا.
* عضو مجلس الشورى
الهوامش
1 انظر تفصيلا لذلك في: محمد اسماعيل السيد، مدى مشروعية أسانيد السيادة الاسرائيلية في فلسطين، القاهرة، عالم الكتب 1975م ص 142 وما بعدها وسنشير اليه فيما بعد بالسيد .
2 سعود عبدالعزيز الدايل، الوضع القانوني للقدس، بحوث دبلوماسية، معهد الدراسات الدبلوماسية، الرياض 1403ه، ص131.
3 نفسه، الصفحة نفسها.
4 نفسه، الصفحة نفسها.
5 السيد، ص200.
6 نفسه، ص211.
7 انظر هنري كتن: وضع القدس في ظل القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، تعريب عصام شريح الباحث، ع24 سنة 1982م، ص 204 وما بعدها.
|
|
|
|
|