| شرفات
يروى أن أوليعبيا رأت في المنام - قبل زفافها بليلة واحدة - أن صاعقة نزلت على جسمها فأصبح شعلة من النار، كما يُروى أن فيليب زوجها رأى - في المنام ايضاً - بعد الزفاف بليلة واحدة أنه طبع على يد زوجته بخاتم منقوش عليه رسم اسد.
الاسد كان الإسكندر وصاعقة النار كانت مقدمه لمجيئة المنتظر, وفي أكتوبر، في منتصف ليلة خريفية ماطرة، بينما الرعد يقصف جاءت البشرى لفيليب على جبهة القتال، لكنه ظل عامين يقاتل دون ان يرى طفله أويداعبه كما يفعل الآباء عادة.
وإمعانا في طبعه بطابع الخشونة والرجولة أتت الأم بالمعلم ليونيداس الذي علمه الاقتصاد في كل شيء، لدرجة أنه رآه ذات يوم في احتفال ديني يُلقي أعواد الطيب في النار بغير حساب فأنبه تأنيباً شديداً لأن الإسراف معيب حتى في هذا المقام.
ثم يأتي أبوه بشيخ المعلمين أرسطو كي يلقنه النحو والهندسة والخطابة والفلسفة، فكان يقسو عليه لدرجة انه يضطر لاستذكار دروسه في الفراش شطراً من الليل،وكان يلجأ إلى طريقة غريبة لمغالبة سلطان النوم، هي أن يحمل كرة من المعدن في يده وهي ممدودة خارج الفراش، فإذا أخذته سنة من النوم سقطت الكرة في إناء معدني بجانب الفراش وأحدثت رنيناً يذهب بآثار النعاس من عينيه.
اي انه رضع الصلابة والقسوة منذ نعومة اظفاره, ثم بدأ يصدرها للآخرين،وأولهم ارسطو أستاذه، الذي سأل تلاميذه اولاد الذوات ذات يوم: كيف تنوون ان تعاملوني حين يؤول إلى كل منكم ما يُنتظر من ثراء اوسلطان؟ فقال أحدهم: افرض على الجميع اعلان مظاهر التكريم نحوك، وقال آخر: اتخذك مستشاري الاعظم، اما الاسكندر فرد بحسم: بأي حق تبيح لنفسك القاء هذا السؤال؟ وأنّي لي أن اعرف ما في ضمير المستقبل؟
وعندما جاء أحد التجار بجواد نادر يساوي الوف الجنيهات ، رفض ابو فيليب ان يشتريه بسبب الجموح، فاحتج الاسكندر على الأب قائلاً: إن من العار ان يضيع جواد بديع كهذا لمجرد أنه لايوجد بين الحاضرين من يستطيع أن يعتلي صهوته، فأمره الأب ان يلتزم الصمت ولاينتقد من يكبرونه!! لكن الاسكندر مضى في احتجاجه امام الجميع قائلاً: إنني استطيع بالفعل أن أروض هذا الجواد الذي أعجزكم جميعاً! ويضحك فيليب ساخراً: ولكن إذا فشلت ، فاي جزاء تنال إزاء طيشك؟ أجاب الاسكندر: إذا اخفقت كان عليّ ان ادفع ثمن الجواد كاملاً.
عناد وصلف بلاحدود، مما اهله لان يشارك في قتال الاثينين، حيث أبدى براعة اهلته لأن يصبح نائباً عن ابيه في تصريف شئون المملكة وهو في السادسة عشرة من عمره، إلى أن قُتل فيليب غيلة عام 336ق,م ليصبح الإسكندر ملكاً على مقدونيا وهو في العشرين من العمر.
كانت اللحظة عصيبة إذ لقي الأب مصرعه، ووالأثينيون لا يريدون أن يمضوا في خضوعهم للمقدونيين، وهاهو خطيبهم الأشهر ديموستين يثير ثائرتهم ويصب جام غضبه على الاسكندر ناعتاً إياه بأقبح النعوت، ومثل اثينا راحت مدن اليونان الأخرى تعلن تمردها على الملك الشاب وتتحرش بالحامية المقدونية.
فهل يمكن لمن رضع القسوة ان يخضع للثورة؟ أيمكن لشاب عنيد برع في ركوب الخيل والمبارزة والعدو والقتال ان يلين لنصائح الحكماء والشيوخ؟! لقد أعلنها حرباً ليست كأي حرب! وهتف في الجميع بأن وفاة أبيه فيليب لا تعني أكثر من تغيير الاسم أما جيش مقدونيا فلم يتأثر أويهتز.
عام واحد فحسب وحروب صغيرة كالتمارين الرياضية، استرد خلالها الاسكندر سلطان مقدونيا على مدن اليونان، وراح يرنو إلى مدن العالم، لماذا لا يخضعها أيضاً لسلطانه؟ وكان ان اتجه شرقاً بجنون الدم والعظمة ليهزم ملك الفرس دارا الثالث في إيسوس عام 333ق,م لتسقط مدن آسيا تباعاً، لم تصمد أمامه سوى مدينة صور لشهور معدودة لذلك بلغ به الحنق والإحساس بجرح كبريائة من تلك المقاومة أنه دمّر المدينة تدميراً وذبح من أهلها نحو ثمانية آلاف من البشر، في واحدة من اقدم جرائم الحرب ضد الإنسانية.
ثم يواصل رحلة الحرب وهتك الاعراض ماراً على جثة مدينة غزة باتجاه مصر، وانشأ مدينة الاسكندرية، ثم خرج لملاقاة دارا في جولة جديدة قرب نينوى, وفي نينوى كانت هزيمة دارا مرة أخرى، وكانت الولائم وحفلات الشرب يقيمها الاسكندر وقواده بينما يُشعل الجنود النيران في قصر ملك الفرس.
إلى اقصى حدود الامبراطورية الفارسية وصلت سنابك خيل الإسكندر,, إلى تخوم الهند سار هذا الشاب ملكاً متوجاً يكاد أن يطوي الكرة الأرضية في قبضته الفولاذية، طامعاً أن يدخل مملكته من الغرب وقد خرج منها من قبل من ناحية الشرق.
وبعد ست سنوات من المعارك المتواصلة عاد الاسكندر مرة اخرى بجيشه المنتصر إلى مدينة إيسوس، وتمخض ذهنه عن فكرة من أغرب ما يمكن، أن يجمع بين الشرق والغرب بطريقته الخاصة، فعمد إلى عقد زواج بين اليونانيين والمقدونيين، وكذلك بين الفرس والمقدونيين، كأنه ادرك أن الحروب التي انتصر فيها جميعاً لا يمكن أن تُوحِّد بين أجناس البشر، ولا يمكن أن يستتب له السلطان والملك إلا برابطة قوية كصلة الرحم والمصاهرة.
لقد آمن بالمزج بين الشعوب الشرقية والغربية، وأن يتزوج السامي بالآري، أملاً في خلق أجيال جديدة لا تشعر بالفرق بين جنس وجنس آخر, ولكن الأجل لم يمتد به ليجني ثمار أفكاره ومشروعاته ونتائج حروبه العالمية، إذ بينما يجهز الجيوش ليعبر إلى إفريقيا باتجاه مضيق جبل طارق اصيب بحُمى قيل إنها الملاريا وماهي إلا ايام حتى رحل تاركاً امبراطورية ضخمة أنشب فيها القواد والطامعون ومنتفعو الحروب مخالبهم وسهامهم, وكأن هذا الفارس الشاب كان حلماً من الأحلام، أو هاجساً من هواجس العولمة في الزمن القديم.
|
|
|
|
|