| مقـالات
نعم، المفروض أن تسمى العملية البقرية وليس العملية القيصرية ، وهي العملية التي تتطلب شق بطن الحامل لاستخراج الجنين اما خوفا على حياتها أو حياته أو حياتهما معا.
ولإزالة اللبس المحتمل نقول العملية البقرية بإسكان القاف وليس بفتحها بالتأكيد! والمشتقة من الفعل بقر أي شق وقطع، والبقير في اللغة الجنين الذي ولد بعد شق بطن أمه، كما يطلق أيضا على الحامل بعد شق بطنها.
ولقد أفاضت معاجم اللغة العربية كعادتها في هذا الفعل بقر ومشتقاته، فذكرت ان الباقر من اسماء الأسد لأنه يشق بطن فريسته، كما تطلق على المتوسع والمتبحر في العلم كأنه أصاب كبد الحقيقة عن طريق الشق مجازاً، وبه سمي أحد الفقهاء المعروفين وهو محمد بن علي بن الحسن الباقر، وورد في الحديث الشريف ستأتي على الناس فتنة باقرة تدع الحليم حيرانا ومعنى باقرة مفرقة لأنها تشق عصا الناس وتشتتهم، كما ذكرت المعاجم ان الطريق يطلق عليها مبقرة لأن الناس تشقها وتقطعها، وتقول العرب بقر الأرض أي عرف موضع الماء فيها فكأنه شقها مجازاً، ولا داعي للتوسع أكثر من ذلك والا لتوسع الحديث واسترسلنا كعادة شيخنا ابي عثمان الجاحظ وخرجنا من الموضوع، والخلاصة مما تقدم أن كافة المعاجم تجمع على أن الفعل بقر معناه شق وقطع اما حقيقة أو مجازا، والمصدر منه بقر بإسكان القاف، وهذا الفعل ومشتقاته لا يزال يستخدم من قبل كبار ومخضرمي السن في المنطقة الوسطى مما يدل على صفاء لهجتهم، وأنها من أقرب اللجهات الى اللغة العربية الفصحى الأم، يقول الشاعر الشعبي المعروف حميدان الشويعر واصفا الفقر الذي تخيله رجلا زري الحال، رث اللباس، ذا أسمال بالية، عند عودته من بلد الزبير الى بلده في نجد:
عليه قطيعة دسمال وبشيت منبقر ظهره |
أي عليه عباءة رجالية قد تشققت وتقطعت من ناحية الظهر.
ولقد كان لأديب العربية الشهير ابي عثمان الجاحظ الفضل في كشف هذا الأمر وكتابة هذا المقال حيث كانت بداية الخيط تصفح الكاتب لكتابه الظريف البرصان والعرجان والعميان والحولان والذي صال فيه وجال، وجمع فيه فأوعى في كل ما طرق عن ذوي العاهات المختلفة وما يتعلق بهم، حتى وصل الى بعض المشاهير ممن ولدوا بعد شق بطون أمهاتهم حيث يطلق على الواحد منهم البقير كما ذكر سابقا وتحدث عنهم في موضعين من كتابه السابق الذكر، وهذا ما أغرى الكاتب باللجوء الى معاجم اللغة للاستزادة في هذا الموضوع لا للتأكد، والا فحسبك بأبي عثمان تبحراً واحاطة بدقائق اللغة العربية.
ولهذا كله، ووفاء للغتنا الخالدة، من الأفضل نبذ استخدام مسمى العملية القيصرية واستخدام العملية البقرية بدلا منها، اضافة الى شيء مهم آخر وهو ان استخدام ذلك المسمى فيه تقليد ومحاكاة للآخرين حتى في الأشياء التي اعترفوا بخطئهم فيها، ومنها نسبة تلك العملية الى القائد الروماني الشهير يوليوس قيصر على أساس أنه ولد عن طريقها بينما الصحيح غير ذلك، اذ كان السائد في عصره ألا تجرى تلك العملية الا بعد وفاة الأم وذلك لانقاذ الجنين، والمعروف أن أم يوليوس قيصر عاشت بعد ولادته زمناً طويلا وتوفيت وعمرها المديد 73 سنة!
ومن المعروف تاريخياً انه لا يمكن تحديد أول عملية ولادة بهذه الطريقة وبالطرق البدائية حتما وقبل ولادة يوليوس قيصر أيضا ولكن يبدو أنها كانت معروفة وقديمة قدم التاريخ حيث أشار الجاحظ الى انها كانت موجودة في العصر الجاهلي ولم تكن تقتصر على النساء بل تشمل اناث الحيوانات كالخيل وغيرها، واذا كانت معروفة لدى العرب منذ أزمان طويلة فانها حتما ستكون معروفة لدى الأمم الأخرى لأن الانسان هو الانسان في كل زمان, ولهذا فلا عجب اذا كتب عنها الكثير من الأساطير والخرافات شرقا وغربا، فعدت بعض تلك الأساطير من يولد عن طريقها من العظماء والأبطال الخارقين لأنه خرج الى الحياة بطريقة صعبة فيها تشبث بالحياة ومصارعة للموت والفناء كما يزعمون، أما بالنسبة للأساطير العربية في هذا الشأن فلم يذكر الجاحظ الا واحدة منها وهو أن من يولد عن طريقها يتغير لون جلده ويصبح بالتالي ذا لون مختلف متميز، وان كان حذراً في تقبل هذه المعلومة، اذ أوردها مسبوقة بالفعل زعموا الذي يستخدم أكثر ما يستخدم للتعبير عن الشك والارتياب، ثم أورد بعض أسماء المشاهير العرب الذين ولدوا على هذه الشاكلة مثل خارجة بن سنان المري الذي ذكر انه سمي بخارجة لأنه استخرج من بطن أمه بعدما توفيت وهي في الطلق.
وعلى أي حال، فان الكاتب حينما يدعو الى تبني الاسم الجديد لتلك العملية، انما يريد العودة الى الجذور والأصالة اللغوية وإحياء ما درس منها، واستخدام المناسب والصالح منها في شتى المسميات، ولعل اليهود في هذا العصر أوضح مثال على ضرورة العودة الى الجذور حيث أحيوا لغة مندثرة وبعثوا في شرايينها الحياة من جديد، كما أحيوا جوانب كثيرة من جوانب هويتهم وتراثهم كانت قد اندثرت وتلاشت، منها على سبيل المثال بعث الشاقل وهو وحدتهم النقدية القديمة التي توارت عن الوجود منذ أحقاب طويلة ولم تكن توجد الا في تاريخهم وأساطيرهم وخرافاتهم، بحيث صار الآن الوحدة النقدية الرسمية لاسرائيل بدلا من الليرة ذات الاصل الايطالي والتي كانت مستخدمة لديهم الى سنوات مضت.
ولا أرى أي مشكلة أو محذور في استخدام الاسم الجديد لتلك العملية، اللهم الا ان النساء قد يتحرجن من هذه التسمية لان معظم الناس سينسبونها جهلا أو تظارفا بادىء الأمر الى البقر بفتح القاف وحاشاهن ذلك! لا البقر بإسكان القاف، ولكن مع مرور الزمن وكثرة الاستعمال سيترسخ لدى الناس معناها الحقيقي، وحتى لو لم يترسخ جدلا معناها الحقيقي، وتم نطقها خطأ بفتح القاف فان البقر الحيوان كما تذكر معاجم اللغة اسم جنس يشمل الذكور والاناث معا وليس مختصا بالاناث فقط أي يشملنا ويشملهن! ، كما ان لفظ بقرة تطلق على الذكر والانثى معا، وان الهاء في آخرها للافراد أي واحد وليس للتأنيث، ولا شيء يحدد التذكير والتأنيث في لفظ بقرة الا القرينة أو السياق، وليس من المبالغة في شيء القول انه لا يكاد يوجد حتى من المتبحرين في اللغة في هذا العصر من يدرك ذلك، وفي هذا تصديق للمقولة المعروفة لا يحيط بكلام العرب الا نبي ، ولم يفهم الكاتب من ناحية اللغة البيت الذي يهجو فيه أحد الشعراء ابن دريد العالم اللغوي الشهير حيث يقول عنه:
ابن دريد بقرة وفيه عي وشره |
الا الآن لأن كلمة بقرة تستخدم للجنسين معا.
كما تورد معاجم اللغة أمراً أكثر طرافة له صلة بالموضوع، وهو انه عندما يراد تحديد الجنس في البقر بدون قرينة أو سياق، فانه يطلق على الذكر الثور والانثى ثورة والتاء هنا للتأنيث وليس للأفراد (كما في بقرة) ولم يدر بخلد الكاتب ان تكون الانثى من البقر ثورة الا بعد تقليب تلك المعاجم، وفي هذا تأييد وتصديق لغوي لأحد رؤساء القبائل العربية حينما سئل عن رأيه في الثورة بمعناها السياسي حينما اجتاحت الثورات بعض البلدان العربية وأكلت في معظمها الأخضر واليابس، فأجاب بسخرية وعفوية: الثورة حرمة الثور! ولم يكن يدري أنه أصاب كبد الحقيقة من الناحية اللغوية، ولكنها على أي حال كانت رمية من غير رام.
|
|
|
|
|