|
| الثقافية
فريدريش دورنيمات كاتب مسرحي سويسري بارز على مستوى الأدب العالمي وقد ترجم العديد من مسرحياته الى العربية وصدرت منذ فترة قصيرة روايته محاكمة ترابسي ترجمها الى العربية كريم حسين نعمة,, ودورنيمات من هؤلاء الكتاب الذين جاؤوا بعد الحرب العالمية الثانية متأثرين بالفلسفات والنزعات الفكرية التي حاولت البحث عن خلاص للانسانية في ظل تحقيق المثال الأخلاقي,.
ورواية محاكمة ترابسي تتناول بشكل أساسي فكرة اليقظة الاخلاقية لضمير البطل الذي تتشابك لكي تتحول بطريقة تجمع بين الجد والهزل بين المصادفة والقصد الى مأساة تشبه المآسي الاغريقية التي تفنن كتّاب المسرح الاغريقي في صياغتها واتقان بنيتها الدرامية بشكل يثير فينا الأسى والشفقة والتعاطف وفي النهاية التطهر الكثرسيس الذي تهدف اليه المأساة في وظيفتها الأساسية وقضية الضمير الاخلاقي في عصرنا الحديث ربما تتوارى قليلا امام سطوة النظم والقوانين الشاملة والضغوط التي تدفع البشر الى التغاضي عن أخطائهم وربما الى نسيانها أو تبريرها، وحين يكشف دورنيمات عن يقظة الضمير عند شخصية عادية مثل ترابسي فان التساؤل يحيط بمدى واقعية هذا التناول الروائي او المسرحي لوقائع الحياة من خلال رؤية توشك أن تكون أفلاطونية تعبر عن المثل العليا في مراقيها العالية وليس في شظاياها المتناثرة في الأفعال اليومية لبشر يلهثون من اجل لقمة العيش,.
ان الرواية تبدأ بمصادفة حيث تعطلت سيارة مستر ترابسي وهو في طريق عودته الى قريته من مقر عمله بالعاصمة كمندوب متجول لمصانع النسيج وهو في الخامسة والاربعين من عمره، وبينما يفكر في زوجته وأولاده الذين ينتظرون عودته يبلغه الميكانيكي الذي استدعاه من القرية التي توقف عندها ان العطل يحتاج لوقت اطول مما يتوقع,, ويمني نفسه بقضاء ليلة ممتعة في أحد البنسيونات الصغيرة ولكنه وجد نفسه أمام منزل لأحد القضاة المتقاعدين يؤجر غرف منزله لبعض النزلاء من أجل مزيد من الدخل ويبلغ الكرم بالقاضي حداً جعله يتنازل عن هذا الأجر المطلوب من السيد ترابسي لقاء انخراطه معه ومع عدد من أصدقائه في ادارة محاكمة وهمية كوسيلة لتزجية اوقات الفراغ اذ إن كل أفراد المجموعة من الأصدقاء ومن المستشارين والمحامين السابقين وهم يحنون الى القيام بأعمالهم السابقة في محاولة لتنشيط قدراتهم العقلية وتسلية وقتهم الذي يمر ببطء ، ويقبل مستر ترابسي ان يقوم بدور المتهم الوهمي في هذه المحاكمة الخيالية,,وعندما يحين موعد الجلسة الذي يحين في العادة مع موعد تقديم العشاء الهنيء الذي تعده لهم وتقدمه خادمة نشيطة وماهرة اختلط العشاء اللذيذ بالمحاكمة التي بدأت هزلية ولكنها لم تلبث ان تطورت الى حد مرير,, ولاضفاء صبغة الجد على المحاكمة حاول المحامي ان يكتسب ثقة موكله طالبا منه أن يأتمنه على اسرار جريمته ولكن مندوب شركة النسيج قال للمحامي اني أقف هنا متهما بلا جريمة وسأل المحامي هل تظن نفسك بريئا ياسيد ترابسي؟ وضحك المندوب التجاري وقال بكل تأكيد وعند هذه النقطة بدأ الغوص في حياة ترابسي الحقيقية قال قبل عشر سنوات لم أكن سوى بائع متجول اتنقل من منزل الى منزل حاملا حقيبة صغيرة مليئة بالنثريات كان عملا قاسيا أجول فيه الطرقات وأمضي الليل في مخازن التبن والفنادق الوضيعة,, بدأت عملي من الصغر تماما من الصغر والآن ايها السادة بوسعكم ان تروا حسابي في البنك لا ارغب في التفاخر لكن هل يملك أحدكم سيارة مثل تلك التي أملكها ثم قال الآن أنا الوكيل الوحيد لشركة هيفا بستوف في اوربا كلها ما عدا اسبانيا ودول البلقان وفي نوبة التفاخر والحماس واصل ترابسي اعترافاته عن حياته الحقيقية وكأنه نسي انه يقوم بلعبة مسلية قال ايها السادة ارجو ألا تمانعوا في أن اتحدث بصراحة,, انتم تعلمون بأنه ليس ثمة شرف في العمل التجاري كأن الكلاب تنهش لحم الطلاب,, فان حاولت أن تعامل الناس بلطف فلن تنال شيئا مقابل المشقة التي تبذلها,,أنا اكسب كثيرا هذه الايام غير أني أبذل مشقة كبيرة مقابل ذلك,, حيث أقطع حوالي اربعمائة ميل يوميا بسيارتي على ان اعترف ان الانصاف لم يكن ديدني عندما أسهمت في جز رقبة جيفاكس العجوز بيد انه لم يكن ثمة سبيل غير ذلك التجارة هي التجارة في كل الاحوال اما كيف ساهم ترابسي في قتل منافسه التجاري فقد كشف الحوار عن ان مستر ترابسي قد اقام علاقة عاطفية غير بريئة مع زوجة خصمه وهي زوجة صغيرة جميلة وزوجها يكبرها بأعوام كثيرة كما أنه مريض بالقلب وقد حاول ترابسي ان يسرب اخبار هذه العلاقة عبر اصدقائه الامر الذي ادى بخصمه الى الوفاة اثر ازمة قلبية حادة,, ان الخيال يختلط بالحقيقة في تطور فاجع حقا فقد وجد هؤلاء القانونيون انهم أمام واقعة قتل حقيقية ولكنها تمت بوسائل غير مباشرة ويعقب مستر ترابسي على خطته قائلا: نعم لقد كانت خدعة وضيعة لعبتها على المحتال العجوز,, لا احد يرغب في ان يذهب بعيدا في افعاله وعلى الرغم من كل ذلك فلا احد يحمل سجلا نظيفا تماما وخاليا من الآثام بيد اني عندما التقي اصدقاء متفهمين امثالكم لا يظل للخجل مكان بيننا.
ان المهارة التي ادار بها المدعي الحوار والغوص في حياة مستر ترابسي قد اوقعته في الفخ الذي تكشف في النهاية عن سوء قصد ورغبة في تصفية حسابات تجارية ادت الى مقتل جيفاكس وفي النهاية اعلن المدعي ان الوقت قد حان لاصدار الحكم قال:
لم يكن صديقنا ترابسي يعزف على اوتار مقطوعة فالموت الناجم عن ذلك لم يكن عرضيا,, بلا ريب انه مذنب بارتكاب الجريمة مع سبق الاصرار كما يتضح من الحقائق التي مفادها انه دبر افشاء السر كما أنه بعد موت خصمه انقطع عن زيارة الأرملة ولهذا نستخلص من ذلك أن الزوجة لم تكن سوى اداة لمخططاته المتعطشة للدماء ثم قال: يسعدني بوصفي مدعيا ان أطالب بان تفرض محكمتنا الموقرة عقوبة الموت على الفريدو ترابسي مكافأة له على جريمة تستحق الاعجاب والدهشة والاحترام.
لقد اصبح الهزل جدا وبينما كان المحامي والمدعي يمارسون لعبة مسلية فان سذاجة ترابسي اوقعته في التورط في قول الحقيقة التي قادته بعد ان انفض سامر المحاكمة الى ان يستيقظ ضميره وبعد ان اصدر القاضي حكمه باعدام المتهمين وصلت الامسية الىذروتها, ولم تكن هناك سحابة تعكر صفو مرحهم,, وكان ترابسي قد انهكه التعب فطلب ان يرشدوه الى غرفته وعندما حان وقت اليقظة في الصباح كان ترابسي يتدلى من دعامة النافذة معلقا في الهواء بلا حراك مشكلا صورة ظلية قاتمة قبالة اللون الفضي الطابع للسماء,, وسط الورود الزكية التي فاح عطرها من خلال النافذة المفتوحة.
كان ترابسي معلقا على نحو حاسم حتى إن المدعي الذي راح ضوء الصباح المتجمع على نظارته احادية الزجاج يعكس وهجا متزايدا اضطر الى ان يحبس انفاسه قبل ان يجهش بالبكاء من شدة الحزن وبيأس مشوب بالارتباك والأسى فقدان صديقه نشج والدموع تترقرق من عينيه قائلا:
الفريدو الطيب بالله عليك ما الذي كنت تفكر فيه لقد افسدت اروع واحلى امسية عشناها في حياتنا هكذا يتحقق المثل الذي يقول رب هزل قد صار جدا , وهكذا يكشف دورنيمات ان حياة الانسان تنطوي على أسرار وربما جرائم وان هذه الحياة التي نقيسها بالقوانين والمعايير الخارجية تتناقض تماما مع الحقيقة او المثال الاخلاقي الذي ربما يرى المؤلف أنه من المستحيل تطبيقه إلا من خلال يقظة شجاعة للضمير وحده.
|
|
|
|
|
