| مقـالات
لم تحظ قضية حدودية بين دولتين عربيتين باهتمام عربي وعالمي بقدر ما حظيت به مسألة الحدود السعودية اليمنية، وذلك منذ بدايتها في مطلع الثلاثينيات الميلادية من القرن الماضي.
ربما لأنها أول قضية حدودية تنشأ بين دولتين عربيتين مستقلتين حيث كانت السعودية واليمن هما الدولتين العربيتين الوحيدتين غير الخاضعتين لهيمنة اي من القوى الاستعمارية التي قامت بتشكيل الحدود بين الدول العربية الأخرى التي كانت تحت هيمنتها سواء في بلاد الشام او مصر أو السودان أو شمال افريقيا حيث كل مسائل الحدود بين الكيانات السياسية العربية في هذه المناطق من صنع الدول الاستعمارية.
وظلت الحدود بين السعودية واليمن بشكل خاص خارج لعبة الدول الاستعمارية بالشكل المعهود لألاعيب هذه الدول والتي ما زالت ذيول مشاكلها قائمة إلى الآن في كثير من المناطق الجغرافية العربية.
ولم تنشغل الصحافة العربية والرأي العام العربي بمثل ما انشغلت بمتابعة تطور الخلاف السعودي اليمني في عهد الملك عبدالعزيز والإمام يحيى إمام اليمن رحمهما الله، وهبت الشخصيات العربية المستقلة والغيورة على أمل ومستقبل الأمة العربية الممثل في الكيانين المستقلين السعودية واليمن في محاولة جادة لرأب الصدع بينهما وبذلوا جهودا صادقة في الحيلولة دون اندلاع حرب بين الدولتين.
بينما وقفت قوى أخرى تدفعها المصالح الشخصية أو تغذيها مراكز القوى الاستعمارية في تأجيج ذلك الصراع والذي انتهت أخيراً إلى ماانتهت إليه باتفاقية الطائف في عام 1934م بفضل مساعي ووساطات الشخصيات العربية المستقلة التي تعبر عن صدق شعورها القومي العربي وضميرها الإسلامي من منطلق حرصها على مصلحة الأمة العربية التي تتعرض لهجمات استعمارية شرسة ممثلة في تنفيذ المشاريع الاستعمارية الكبرى المهددة لأمن واستقرار الأمة العربية أهمها زرع الكيان الصهيوني في دولة ووعدت بريطانيا بقيامها على الأرض العربية.
ومع أن اتفاقية الطائف وضعت حدا قاطعاً وفاصلاً ومنهياً لمسألة الخلاف الحدودي السعودي اليمني عدا ذلك الجزء الصحراوي الكائن من جبل الثأر وما وراءه شرقاً في عمق صحراء الربع الخالي لصعوبة تحديد حدود ثابتة في منطقة صحراوية صعبة فقد أجل البت فيها إلى حين تتوفر الوسائل المساعدة على وضع معالم الحدود بشكل نهائي مع مراعاة الوضع القبلي لقبيلتي يام السعودية ووائلة الهمدانية اليمنية القبيلتين المتحادتين في هذه المنطقة حيث كل قبيلة تعرف بشكل جيد مناطق نفوذها.
ويقابل هذه المنطقة الصحراوية في الطرف الآخر المحاذي للبحر الأحمر والحدود البحرية نفسها التي أيضا أجلت تحديد الحدود البحرية حيث لم يسبق قبل هذا التاريخ أن عرفت المنطقة العربية أي تحديد دقيق للحدود البحرية, أما نقطة الارتكاز البري فيبدو أنها لم تظهر كنقطة خلاف إلا مع الشروع في التفكير في تحديد الحدود البحرية الفاصلة بين اليمن والسعودية.
لم تشهد الأمة العربية حدثاً مهماً حظي باحتفالية كبيرة بمثل ماحظي به الاتفاق السعودي اليمني بتوقيع اتفاقية الطائف التي وقعت في عام 1934م بين زعيمين عربيين ندين في الثقل والمكانة والاستقلال السياسي وعُدّت واحدة من الاتفاقيات القليلة إن لم تكن الوحيدة من بين الاتفاقيات المشابهة ليس في منطقتنا العربية فحسب بل وحتى في مناطق أخرى من العالم المتمدن حيث لم يظهر في أي من موادها ولاملاحقها ما يشير إلى غالب أو مغلوب أو منتصر أومهزوم بل تجلت فيها الروح العربية الاصيلة والأخلاق الإسلامية الحميدة ومراعاة مشاعر الجوار والأخوة فلم يكن هناك سؤال من الذي بدأ الحرب؟ وماذا يترتب عليه من مطالبة بتعويض وما غير ذلك ولم يخسر أي طرف من الطرفين ولا ذراعاً واحداً من الأرض التابعة له أصلاً قبل توقيع الاتفاقية وهي على غير ماجرت العادة عليها في حالة حروب مشابهة والحديث عن اتفاقية الطائف التي ظلت قضية محورية واساسية وغير قابلة للمساس كما نصت عليه اتفاقية جدة الموقعة يوم 12 يونيو 2000 بين المملكة واليمن وكما نصت عليه من قبل وثيقة التفاهم بين الطرفين في 27 رمضان 1415ه.
وماكانت اتفاقية الطائف ستكون مكان نقاش او كما يحاول البعض أن يوصفها بأنها اتفاقية أملاها طرف منتصر على طرف مهزوم حيث لايقول هذاإلا مغالط للحقائق ومتجاهل لحقيقة ما حدث قبل واثناء وبعد اتفاقية الطائف ومن يدخل ضمن زمرة المغرضين واصحاب الأهواء والمصالح من عرب وغيرهم الذين عز عليهم أن يروا دولتين متجاورتين تربطهما علاقات تاريخية وثيقة يشكل كل منهما للآخر عمقاً حضارياً واستراتيجياً وسكانياً، ويشكلان الثقل الأكبر السياسي والسكاني والحضاري للجزيرة العربية، مهد الإسلام ومنبع العروبة عز على أولئك أن يعيش أبناء هاتين الدولتين في وئام وانسجام، فأعملوا معاول الدس والغمز واللمز والتحريض والتحريش مما يخلق مشاعر غير ودية وعوازل نفسية بين شعبين أخوين هما الاقرب لبعضهما من اي شعب عربي آخر.
إن ماحدث في جدة في اليوم الثاني عشر من يونيو 2000 من اتفاق بين الطرفين وتوقيع معاهدة حدود دائمة وثابتة ودولية تشمل البر والبحر وبينهما ماتم الاتفاق عليه في اتفاقية الطائف عام 1934م ومصادقة مجلسي الشورى والوزراء السعوديين بالإجماع على هذه المعاهدة ومصادقة قيادة القوات المسلحة والأمن اليمني برئاسة الرئيس علي عبدالله صالح ومجلس الوزراء اليمني برئاسة الرئيس علي عبدالله صالح نفسه وقادة الأحزاب اليمنية المشاركة في الحكومة وكذلك زعماء احزاب المعارضة ثم مصادقة مجلس النواب اليمني بالإجماع في اجتماعه بعد ظهر يوم السبت 22 ربيع الاول 1421ه الموافق 24 يونيو 2000 وصدور قانون أصدره المجلس في نفس جلسة المصادقة ينص بالإجماع على المصادقة على معاهدة الحدود بين البلدين الشقيقين، كل هذه المحصلة تعد من أهم وأعظم المكاسب التي حققها الشعبان السعودي واليمني في مطلع الألفية الثالثة ونقطة تحول وصفحة جديدة في تاريخ الجزيرة العربية, وبقدر ماتمثله هذه المعاهدة من خير كثير لشعبين أخوين، فإنها تمثل ضربة مؤلمة وقاصمة لأعداء هذين الشعبين بل أعداء الأمة العربية والإسلامية وإنهم اليوم اصغر مايكون وأحقر ما يكون, فليخسأ اصحاب النفوس الصغيرة والمتاجرون بشكل خسيس وحقير في مصالح الامة.
والمجد والعزة لمن اختار لنفسه مكانة عالية في سجل تاريخ أمته وهم اولئك القادة والزعماء الكبار من الطرفين، الذين ارتفعوا فوق الصغائر، وارتقوا بقامات عالية حيث المجد لأمتهم والعزة والخير والنماء لشعوبهم فالتاريخ لا يصنعه إلا الكبار.
* استاذ التاريخ الحديث والمعاصر جامعة الملك سعود عضو مجلس الشورى
|
|
|
|
|