كلَّما مررت بالشوارع المكتظة، المزدحمة بكل شيء عاجلني الشوق إلى رائحة الشوارع الصغيرة، ورطوبة تربتها، وحركة الناس فيها، وتذكَّرتُ شيئاً من الطفولة،
حنينٌ جارفٌ يجتاحني كلما تخيلت أن النسق الحديث للحياة لا يُبقي على أية ذكرى، ولا يساعد على بنائها,,.
أوجُهُ الشوارع تتبدَّلُ في كل يوم,,.
الناس لا تعرف بعضها، حتى المساجد كثرت حتى لم يعد الناس يصلُّون في مسجد واحد يلمُّهم إلى بعضهم، ويوطِّد تعارفهم,,.
ديناميكية الحياة لا تساعد على تكوين الذكريات، ولا تساعد على تنمية الانتماء,,.
لذلك أتخيَّلُ أن صدور الناس فرغت من رسيس الحنين، ونبض الأشواق,,.
وأن جيلاً سبق هو وحده مَن يتأسّى على الماضي، وتربطه ذكريات بأحياء، ومواقع، كلّما مرَّ بجوارها حنَّ إليها كحنين الشاعر العربي وهو يتغنَّى بمرابع الأحبَّة، ويستنطق الثلاثي الأثافي وأعمدة الخيام,,,!، وفوّهات الآبار المهجورة,,.
وأن جيلاً جديداً لم يعد يعرف الذكريات، ولا يوجد في داخله صندوقٌ لها,,, فلا يربطه موقعٌ بإنسان، ولا إنسانٌ بموقع لذلك تجد مشاعره جامدةً، وتعامله سطحياً، وعواطفه باهتةً,,.
لقد طغت النفعيّةُ على التبادلية في علاقات الإنسان,,.
لذلك اتجهت أقدامهم إلى مواقع مصالحهم الخاصة، ونفرت عن الاتجاه إلى حبيبٍ مشتاق، أو صديقٍ محتاج، أو صاحبٍ لا يجد من صحبه إلا الاسم، ولا يعرف منهم إلا المصادفة,,.
فإن مات أحدهم سعوا إليه لأداء واجب الوجاهة في الدنيا,,.
وإن فرح أحدهم واصلوه على حجم سبب فرحته، يتقرَّبون إليه إن تقلَّد منصباً أو حظي بجاهٍ بقدر ما يحقق لهم منصبُه وجاهُه من منافع,,, يتحلَّقون حوله كالفراش,,, فإن انطفأت شعلته فرّوا إلى شعلةٍ أخرى,,!!
مثل هؤلاء تخلو صدورهم من العاطفة، والمشاعر الجميلة،,,.
تحوَّل الناس إلى ممثلين في الدرجة الأولى,,, وساعدتهم كافة المعطيات والمتغيرات من حولهم والروافد والنوافذ إلى أن تتبلور فيهم هذه القدرة، وتنضج لديهم هذه الملكات، ويبرعوا في التمثيل,,.
حتى الحب بينهم ,,.
أصبح وسيلةً إلى النفعيَّة,,.
في العمل، وفي الحياة العامة، بل حتى في الزواج,,.
تجد الناس تترابط بالزواج ليس لأيِّ معيار إلا المعيار المادي,,,، لذلك كثيراً ما تفشل مؤسساته التي تقوم على هذا المعيار، ذلك لأن اثنين لا يعرفان من بعضهما إلا ابن مَن؟ وابنة مَن في سوق المال، وكم رصيده وكم رصيدها، حتى إذا ما التقيا ولم تلتق فيهما نبضة الإحساس، كان الرابط واهياً ضعيفاً كوهن الورق الذي يقيِّم أرصدتهما,,.
كذلك تجد الناس تترابط بالصداقة ليس لأي معيار إلا المعيار المادي ذاته ووجاهة الموقع,,, لذلك تفشل روابط الصداقة إن فقدت التوازن الوسطي في شدِّ الخيط لأيهما,,, فتنقطع بينهما صداقة لا تقوم إلا على المصلحة الشخصية والنفعية الذاتية,,.
وقِس على ذلك بقية روابط الحياة التي عمَّت وانتشرت,,.
وأصبح العاطفيُّون في هذا الزمن أغبياءَ,, يهرب الناس منهم,,.
قد يقفون على محطّاتهم بعضاً من الوقت، يتلقَّون منهم نفحاتٍ روحية، ويتغذّون شيئاً من معينهم,,, لكنهم ما يلبثون أن يفرُّوا منهم، فالناس تنظر إليهم على أنهم ضعفاء,,.
ذلك لأن الإنسان الإنسان، ذا القلب العامر بالحبِّ، يصفو، ولا يجتمع حبُّ الدنيا والصفاء أبداً في صدر واحد,,, هذا الإنسان لا تقيِّده الحياةُ بكل زخمها، وزحمتها، واكتظاظها,,, تجده يهرب من الدُّور الفارهة، والصقيل من الوسائل، والمزخرف من القول، والمركّب من أساليب التعامل، والملتوي من المقاصد والنوايا,,, إلى حلمٍ واسع,,, يمارس فيه الحياة في بيتٍ متواضع، أو خيمةٍ صغيرة، أو كوخ يلمُّه مع حلمه، ومشاعره النقيّة، وصدقه الذاتي، وطموحه الفضيلي، وحِسِّه الدافئ، وهو يحتضن الناس,,, كلَّ الناس، ويحبُّ الناسَ,, كلَّ الناس، ولا يُبدِّدُ وقته في متابعة غير نبضة حسٍّ صادقٍ بالآخر، ورهجة فرحةٍ عفويّةٍ بالسعادة مع الآخر,,.
تمتلئ نفسُه بالمشاعر,,.
ويزدحم صندوقه بالذكريات,,.
وتتابع عيناه خطوة النحلة، وشدو العصفور، ومروق السحاب، ودفء الظلِّ، وبرودة الاطمئنان، وعمق ندوة الندى فوق السطوح لورق الشجر، ووجه الحجر، وأجنحة العصافير,,.
تلك المشاعر التي تستقرُّ في قلبٍ لا ينبض إلا بالحبِّ للحياة ومن فيها من الإنسان,,.
ليس على الوجه الذي ازدحمت فيه وضاع فيها الإنسان.
فالإنسان الإنسان يمارس الحياة بقلبه النقي فيغنم منها حلوها في كل شيء وتجمل له بكل شيء.
فهو سعادتها الأبدية وعصفور فرحها الدائم.
د,خيرية إبراهيم السقاف
|