أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 23rd June,2000العدد:10129الطبعةالاولـيالجمعة 21 ,ربيع الأول 1421

مقـالات

السفر: منافعه وآدابه
د, محمد بن سعد الشويعر
في فترة الصيف، الذي يظلل الناس لفح سمومه، ووهج شمسه، يحب الناس السفر، لأن هذا الوقت هو عطلة المدارس، وفرصة التنزه للأولاد، وتجديد نشاطهم، وموسم المناسبات المتعددة اجتماًعيا وأسرياً,.
فالسفر الذي هو لازمة من لوازم حياة الإنسان، وجزء من متطلباته، في أداء أغلب شؤون أعماله، علاوة على أن كثيراً من الأمور التعبدية لا تنتظم أمورها، ولا يتوصل الإنسان فيها إلى بغيته إلا بالسفر كالحج لغيرأهل مكة، وكالجهاد والهجرة عند الفرار بالدين,, أو لطلب العلم، ولالتماس الرزق، واكتساب المعيشة، وغير ذلك من أمور عديدة تتعلق بأي إنسان، في أمور الحياة، على اختلاف مستويات الناس، وتعدد مشاربهم.
وقد جعل الله للسفر أحكاماً، وفصل رسول الله صلى الله عليه وسلم، آدابه بالقول والفعل، وهي آداب كثيرة، وفيها مصلحة ومنفعة للإنسان، وهذه الآداب إذا حرص عليها المسلم تمسكاً وتطبيقاً، فإنه يؤجر عليها بالنية الصادقة، وباهتمامه بترسم خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يجد له مصلحة ظاهرة، في أموره الدنيوية.
أما إذا كان غير مسلم، وحرص عليها تقليداً، أو لأي هدف، فإنه لا يثاب عليها لأن قلبه خال من الجوهر الحقيقي لقبول العبادات، وهو الإيمان بأركانه الستة، لأن العمل، بدون إيمان، لا يقبل، كما أن الشجرة بدون ثمر لا تنفع.
أو كان مسلما وأدى أعمال السفر على غير الوجه الشرعي، ولا نية صادقة لحديث: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء مانوى,,, رواه البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويروى للإمام الشافعي رحمه الله في فوائد السفر هذا القول:


تغرّب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرّج همّ واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد

فالإنسان قد تصيبه الهموم، في مكانه الذي كان يقيم فيه، من مصائب تقع عليه بالتجني أو الظلم، وأشدها ألماً، يأتي من الأقارب الذين يحسدون الإنسان على ما وصل إليه أو يغارون منه، فينالون منه باللسان والعمل، وبالغمز واللمز فيضيق به، ما كان واسعاً، وتأنف نفسه البقاء في هذا المجتمع، كما يقول الشاعر:


وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهنّد

فيجد في السفر عوضاً عمن فارقه، حيث تنفرج الكربة، وينسى تلك الهموم، فكأنه يجد قول الشاعر أمامه ماثلاً للعيان، حيث يحثه على مبارحة مثل هذا المجتمع، وكأن الشاعر عندما قال هذا البيت يعبر عما جاش في نفسه:


سافر تجد عوضاً عمّن تفارقه
بالربع ربع وبالإخوان إخوان

وهذه واحدة من فوائد السفر، حيث ينزاح عن الكاهل ما كان ثقلاً عليه، وكابوساً أهمّ صاحبه.
أما من ضاقت به المعيشة في مجتمعه الصغير، وانسدت أمامه أبواب الرزق، أو سلك طريقا في المعيشة لم يوفق فيه وركبته الديون,, فإن من فوائد السفر تغيير المكان، والسفر في طلب المعيشة بمجتمع تزداد فرصه، وميدان تتنوع فيه مجالات العمل,, ليجد رزقه الذي هيأه الله في المكان الجديد، الذي ذهب إليه، وقد ينفتح فيه ما كان منغلقاً في المكان السابق، لينصهر في البيئة الجديدة,, التي يقلّب مهارته فيها، حتى يوفقه الله لمعيشة أوسع، والمثل عندنا يقول: بلدك التي ترزق فيها، وليست البلد التي تولد فيها ,, وشاهد الحال في كل زمان دليل واضح على ذلك.
والفائدة الثالثة: الحصول على العلم، فالانتقال من مكان إلى مكان يهيء لراغب العلم أن يجد بغيته، ذلك أن العلم له جهات يستقر فيها، كما قيل: العلم يؤتى ولا يأتي,, ومن مقتضيات العلم أن يتحمل طالبه أموراً منها: الفقر والحاجة، والتنقل في سبيله فقد روي عن أسلافنا نماذج فريدة فمثلاً الإمام أحمد بن حنبل، جاء من العراق إلى مكة والمدينة على قدميه ليأخذ عن علمائها، ولاقوت له إلا ما يبيعه من نسخ الكتب بيده بعد بيعه بثمن بخس، ثم ذكر له حديث رواه عبدالرزاق وهو باليمن، فذهب إليه وأخذه منه، لأنه يجد حلاوة الأخذ مع متاعب السفر.
ثم إن طالب العلم وإن كان في بلده عالم فقد لا يكفيه ما أخذ منه، بل لابد من المزيد ممن هو أعلم منه,, وفي العصر الحاضر تنوعت العلوم وكثرت التخصصات التي يتطلبها العصر، ويلزمها مراكز بحث ومختبرات، وللمصلحة العامة، فإن طلب تلك العلوم المتنوعة والمجالات الدقيقة في تخصصها يستلزم السفر والتحمل في سبيل العلم وتحصيله.
وحكومتنا وفقها الله، منذ عهد الملك عبدالعزيز وإلى اليوم، قد يسرت على طالب العلم كل ما يعترضه وأعانته بالفرص والمنح وتحملت عنه الجهد المالي وهمومه، وما عليه إلا أن يتفرغ بجهده الذهني، ويؤصل ذلك بقدراته العملية ليحقق ما أرسل من أجله علمياً، وخبرة وتوسعاً.
والفائدة الرابعة: تعلّم الأدب، فالمسلم الذي تهذب بأخلاق دين الإسلام، عندما يسافر، فإنه يجب أن تأخذ طبائع الإسلام جميع تصرفاته,, ولكن مما يؤصلها ويرسخها في نفسه وأعماله اتصاله في سفره بطبقات من العلماء والعاملين،مما يعطيه دفعاً لأخذ الحسن، ونبذ السيء,, أما إذا كان سفره لبيئة غير إسلامية، فهو في أحد أمرين، الأول أن يحرص على أداء شعائره الدينية، والتعامل معهم بموجب تعاليم وتربية دينه الذي هداه الله إليه، حتى يكون مؤثرا فيهم، لأن بعض النفوس جوهرها جيد، وتنجذب مع حسن التوجيه، ووجود النموذج الحسن، وما دخل الإسلام كثيرا من دول العالم في أطراف القارات، إلا بالنموذج الجيد وحسن التعامل، مع التجار المسلمين فكان دورهم أكثر من دور الجيوش، وفي العصر الحاضر نلمس هذا الاثر في أمريكا وأوروبا واستراليا وأفريقيا وشرق آسيا، يقول أحد المستشرقين: لو طبق المسلمون شعائر دينهم وحرصوا عليها لانقادت أوروبا وأمريكا للإسلام,, ويقول مسؤول أمريكي في الأمن، ومثله استرالي إن القضاء على الجريمة في العالم الغربي، لن يتحقق إلا عن طريق الإسلام، لأن من دخله من المجرمين وهو في السجن، صلح ولم يعد للجريمة بعد ذلك أبداً.
والمسافرون من أبناء المسلمين لتلك الديار، بأخلاقهم وسلوكهم المستمد من الإسلام هم خير من يحمل راية الدعوة إلى دين الله بالعمل والقدوة لا بالحديث والخطابة,, فقد يكون ذلك الحديث مخالفاً للعمل والله يقول: كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ]الصف3[.
الأمر الثاني: أن يكون حريصا على التطبيق، فيجد عند من سافر إليهم أخلاقا وآدابا يحبها الإسلام، ولكن بعض المسلمين يتساهل فيها مثل: الصدق في القول، حفظ العهود، والوفاء بالمواعيد، التثبت والكتابة في المعاملات المالية والتجارية، التقيد بالمواعيد للعبادات، حب الصدقات والتبرعات، المحافظة على أنظمة الدولة وممتلكاتها، المحافظة على أوقات العمل دخولاً وخروجاً، الأمانة في العمل وعدم تسريب أسراره، وغير هذا من أمور كثيرة، كما روي عن شيخ الأزهر الإمام محمد عبده عندما كان مقيماً في فرنسا لما سئل ماذا رأيت في بلاد الغرب؟, قال: رأيت عندهم إسلاماً بلا مسلمين، ورأيت في بلادي مسلمين بلا إسلام,.
يريد أن أخلاقهم وتعاملهم هي أخلاق وتعاليم الإسلام، لكنهم لم يدخلوا الإسلام، وفي بلاده يوجد مسلمون بالاسم ويخالفون في أعمالهم وتصرفاتهم، بما تأمرهم به تعاليم الإسلام.
لذا فإن المسلم في سفره لتلك البلاد يجب أن يكون مسلما بالاسم والفعل, فلا يرتكب ما هو محرم، ولا تتبرج نساؤه وبناته، ولا يعصون الله هناك علانية، ليظهروا طاعته في بلادهم فقط، فإنه يعبد في كل مكان، وتتأكد العبادة والمثالية في تعاليم الإسلام هناك أكثر، لعل الله أن يهدي بالمسافر شخصا، فإنه خير له من الذهب والفضة، وغيرهما من نفائس الدنيا.
والإسلام لا يدعو الإنسان لترك الأسفار وضياع المصالح الكثيرة، ولكن على المسلم المسافر مثلما يتحصن عن الأمراض العديدة في كل بلد يتجه إليه باللقاحات المطلوبة، فإن عليه ان يتحصن بتعاليم الإسلام، التي تنجيه من شرور عديدة: كالجريمة التي لا يتعرض لها إلا صاحب المسلك المشين، وكالأمراض الجنسية الخطيرة وفي مقدمتها الإيدز والهربز والسلفس التي لا تأتي الإنسان إلا من ارتكاب الفواحش، وكأمراض الكبد والسرطان وخلل الخلايا، التي لا تأتي الإنسان إلا مع تعاطي المخدرات وشرب الخمور والتدخين,, وغيرها من أمور تنعكس على الفرد وأسرته ثم مجتمعه، وفيها ذهاب للنفس وللمال,.
فتعاليم الإسلام التي حرمت هذه الأشياء، أعطت الإنسان حصانة تحميه بإذن الله في نفسه وأسرته ومجتمعه: صحياً ونفسياً وتحفظ له ماله، فلا يضيع هدراً، بل ولا ينفقه فيما يضره فيصبح قد خسر الدنيا والآخرة.
بل يجب أن يكون المسافر، كما كان أجداده من قبل خير ممثل لدولته التي تحرص علىالإسلام: تطبيقاً وعملاً، وخير قدوة في دينه وأخلاقه، حتى يؤثر في الآخرين، بدل أن يجذبوه لشرهم,, إذ لا شك أن كل مستقيم يحترم من خصومه قبل أعدائه,, وإن تخطفته شياطين الإنس والجن، فإن عزمه وتوكله على الله خير معين له على الثبات والتصدي والله يقول: ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ]الملك2[.
أما الفائدة الخامسة: فهي صحبة الماجد: وهو الخيّر في أخلاقه، المستقيم في تصرفاته، فإن مما يعين على الرحلة السعيدة المفيدة، سواء كان الإنسان بمفدره، أو معه عائلته وأولاده، حسن اختيار الرفيق، فإن الرفيق قبل الطريق، والماجد هو الذي يعينك على دروب الخير، ويبصرك بمواطن الشر حتى تبتعد عنها، والمرء يتأثر بمن اقترن به، وكما جاء في القول المأثور: مثل الجليس الصالح كحامل المسك إما أن يحذيك، أو تجد منه رائحة طيبة ومثل جليس السوء كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثاً , ومن الآداب أيضاً إذا كانوا جماعة فليؤمروا أحدهم، وأن يكون خيرهم ديناً.
والفوائد التي يجب في مجملها: أن تعود على المسافرين معه من زوجة وأولاد بالخير والنفع في أمور دينه ودنياه، سواء كان السفر داخلياً أو خارجياً، ولكنني أنصح بالبعد عن الأسفار للخارج، إلا عند الضرورة التي لا مندوحة عنها، كما يجب أن يجتنب المسافر ما يعود عليه وعلى أفراد أسرته بالضرر عاجلاً أو آجلا، في أمور الدين والدنيا، حتى ولو كان السفر داخليا لأن رأس مال الإنسان دينه، ويجب المحافظة عليه، أقول إن من تلك الفوائد، آداب وطبائع يجب الاهتمام بها.
أما آداب السفر فهي كثيرة، وقد جاءت شريعة الإسلام: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بتوضيحها,, ومن ذلك:
الدعاء عند ركوب الراحلة مهما كانت هذه الراحلة، وذكر الله وشكره على نعمة التسخير لهذا المركوب,, مما يجدّ في كل عصر ومصر، كما جاء في الآيات 12، 13، 14 من سورة الزخرف, ولما ورد من أذكار كان يقولها صلى الله عليه وسلم ويعلمها أصحابه.
شكر الله على أنه خفف على المسافر العبادات: فالرباعية تقصر إلى ركعتين، ويتم الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت أحدهما أيهما أرفق بالمسافر، وإباحة التيمم عند فقدان الماء بالصعيد الطيب,, وأن المسافر يكتب له من العمل ما كان يقوم به مقيما، ومثل ذلك المريض,, حيث يأمر الله ملائكته بذلك,, والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تجتنب نواهيه.
التواضع عند ركوب الدابة، أو المركوب صناعياً مهما كان, وذكر الله وشكره أن ذللها للمسافر، وسؤال الله من خيرها، وخيرما جبلت عليه، ويستعيذ بالله من شرها وشر ما جبلت عنه.
ومن آداب السفر: أن يحرص المسلم على امتثال أمر الله، بأداء ما افترض الله عليه، وان يعطى للسفر الأحكام التي خففها الله عنه، بالفطر في رمضان، والقضاء من أيام أخر، وتذكر نعمة الله عنه: بأن دعوة المسافر مجابة، وعليه أن يتقيد بمسببات إجابة الدعوة: بأن يكون السفر سفر طاعة، وليس سفر معصية، وأن يكون مكسبه حلالاً، كما في حديث الأشعث الأغبر الذي يمد يديه إلى السماء داعياً، لأن السفر مظنة الإجابة، ويقول صلى الله عليه وسلم: فأنى يستجاب له ومكسبه حرام، وملبسه حرام، ومطعمه حرام، وغذي بالحرام , فكيف يقابل المرء ربه ويسأله التوفيق والعودة السعيدة، وهو يقابله بالمعصية.
ألا ترى أن الناس في تعاملهم ولله المثل الأعلى يرون من يخالف أمر الرئيس في العمل، مهما كان نوع هذا العمل؛ رسمياً أو خاصاً، استهانة به، وعدم تقدير لمكانته، مما يترتب عليه فصله من العمل، أو مجازاته بأي نوع من أنواع الجزاءات الرادعة، عن هذا التطاول، سواء ظهر منه ذلك أو بدر لأحد فأخبر عنه.
فإذا كانت التصرفات بين البشر فيما بينهم، تحدث ردوداً أقل ما توصف به في معهودهم بسوء الأدب، وعدم الاعتراف بالفضل لأهله، فإن الأمر مع شرع الله، والاستهانة بالمحرمات أشد وأنكى مما يستلزم حسن الأدب، وامتثال شرع الله أثناء السفر، بل في كل وقت: خضوعا بالقلب، وسلوكا بالعمل، ومحبة بالوجدان لشرع الله، ولمن يحرص على تطبيقه.
ذلك أن أوامر الله، وما يقصد بها الإخلاص لله، وحسن النية في العمل، يجب أن يتغلب على الإحساس بتعظيم أوامر المخلوقين، وما يؤمل منهم، من مصالح دنيوية.
الحرص على تقوى الله: والتي تعني مراقبته سبحانه في السر والعلن، فلا يكون في العلن وأمام من يخشى نفوذهم أو انتقادهم حريصاً على العبادات والأعمال الحسنة، وإذا توارى عن الأنظار، أو جلس مع أهل المعاصي، سار معهم في دربهم مبارزاً ربه بذلك العمل، فإن هذا هو عمل المنافقين الذين يخادعون الله وهو خادعهم، ويراؤون الناس، ولا يذكرون الله إلا قليلا، وقد وعدهم الله بالدرك الأسفل من النار, والتقوى أعلى مراتب العقيدة كما قيل:


إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
خلوت ولكن قل عليّ رقيب

وأن يكون السفر في أول النهار لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك لأمتي في بكورها وأن يكون يوم الخميس قدوة به صلى الله عليه وسلم لما جاء في الصحيحين: لقلّما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلا في يوم الخميس .
والتعاون بين المسافرين، فالقادر يعين من لا قدرة له، سواء بالمتاع أو بالزاد أو بالماء، أو بغير ذلك مما يحتاجه المسافر البعيد عن أهله وقرابته,, وأن يدعو عندما يعود من السفر بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ,, وفي السفر يجب ألا يكون المسافر وحده، بل يتخذ رفيقاً فإن الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة جمع كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دروس وعبر:
ذكر ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار: أن أبا جعفر المنصور سمر ذات ليلة، فذكر خلفاء بني أمية وسيرهم، وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، فكانت هممهم من عظيم شأن الملك، وجلالة قدره، قصد الشهوات وإيثار اللذات، والدخول في معاصي الله ومساخطه، جهلاً منهم باستدراج الله وأمناً لمكره، فسلبهم الله العز، ونقل عنهم النعمة، فقال له صالح بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبدالله بن مروان، لما دخل أرض النوبة، هارباً فيمن معه، سأل ملك النوبة عنهم، فأخبر فركب إلى عبدالله، فكلمه بكلام عجيب، في هذا النحو لا أحفظه، وأزعجه عن بلده.
فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ويسأله عن ذلك.
فأمر المنصور بإحضاره، وسأله عن القصة، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمت أرض النوبة، بأثاثٍ سلم لي فافترشته بها، وأقمت ثلاثاً، فأتى ملك النوبة، وقد خبر أمرنا، فدخل عليّ رجل طوال أقنى، حسن الوجه، فقعد على الأرض، ولم يقرب أثاثنا، فقلت: وما يمنعك أن تقعد على أثاثنا؟ فقال: لأني ملك، وعليّ حقّ، وحق على كل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه، ثم قال لي: لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم؟ قلت: اجترأ على ذلك عبيدنا، وأتباعنا لأن الملك زال عنّا, قال: فلم تطأون الزروع بدوابكم؟ والفساد محرم عليكم؟ قلت: يفعل ذلك جهالنا, قال: فلم تلبسون الديباج والحرور، وتستعملون الذهب والفضة، وذلك محرم عليكم؟, قلت: ذهب الملك عنّا، وقلّ أنصارنا، فانتصرنا بقوم من العجم، دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منّا.
فأطرق ملياً، وجعل يقلب يديه، وينكت على الأرض بعود في يده، ويقول: عبيدنا وأتباعنا، دخلوا في ديننا وزال الملك عنا، يرددونه مراراً,, ثم قال: ليس ذلك كما ذكرت، بل أنتم قوم استحللتم ما حرّم عليكم، وركبتم ما عنه نهيتم، وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله العزّ، وألبسكم الذلّ بذنوبكم, ولله فيكم نقمة، لم تبلغ غايتها، وأخاف أن يحل بكم العذاب، وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاثة أيام، فتزودوا ما احتجتم إليه، وارتحلوا عن بلدي,, ففعلت ]عيون الأخبار 2: 205 206[.
وفي مثل هذا أورد: أن معاوية لما أسنّ اعتراه أرق فكان إذا هوّم أيقظته نواقيس الروم، فلما أصبح يوماً دخل عليه الناس قال: يا معشر العرب، هل فيكم من يفعل ما آمره، وأعطيه ثلاث ديات، أعجلها له، وديتين إذا رجع؟,فقام فتى من غسّان وقال: أنا يا أمير المؤمنين، قال: تذهب بكتبي إلى ملك الروم، فإذا صرت على بساطه أذنت, قال: ثم ماذا؟ قال: فقط, فقال: لقد كلفت صغيراً وآتيت كبيراً، فكتب له وخرج, فلما صار على بساط قيصر أذن، فتنافرت البطارقة واخترطوا سيوفهم، فسبق إليه ملك الروم، وجثا عليه وجعل يسألهم بحق عيسى، وبحقهم عليه لما كفّوا، ثم ذهب به حتى صعد على سريره، ثم جعله بين رجليه، ثم قال: يا معشر البطارقة، إن معاوية رجل قد أسنّ وقد أرق وقد آذته النواقيس، فأراد أن نقتل هذا على الآذان, فيقتل من قبله منا ببلاده على النواقيس، والله ليرجعن إليه بخلاف ما ظن، فكساه وحمله، فلما رجع إلى معاوية قال: أوقد جئتني سالما، قال: نعم، أما من قبلك فلا ]السابق ص 198[.

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved